فتنة لن تنام قريباً

غدا الانتحاريون أصحاب مذهب. مريدون متحمسون يرون فيه أسطورة تقودهم الى كشف سر الإله. والتحزّب ليس فيه شرط الموت المحتم. يكفي أن يصيبك عمى العقل والقلب معاً لتكون واحداً من هؤلاء. وفي لبنان، ليس الأمر صعباً كما يتوهم أبناء «الفرادة اللبنانية». بل فيه أكثر الترب خصوبة للدعوة والالتحاق. وعندما يصبح من بيدهم الأمر، على شاكلة الطبقة السياسية النافذة عندنا، فعليك العوض والعوض من الله.

في لبنان، شيعة ينفرون من أصحاب الفكر الوهابي. يرون فيه مصدر هذا النوع من القتل المجنون. وفي لبنان، سنّة ينفرون من الفكر الوهابي، لكنهم يرون في الشيعة مصدر قلق على حياتهم،أو هكذا يظنّون، وهؤلاء، لا يرون ضرراً في إقلاق راحة من يقلق راحتهم اليوم أو في أي يوم. وبين السنّة والشيعة، يتجمع انتهازيون، من قبائل أخرى، مسيحية أو درزية أو علمانية أو فردية أو تلك التي تسمى اليوم المجتمعات المدنية. هؤلاء، لا يشعرون بالحاجة الى إعلاء موقف إنساني، إنساني فقط، لا سياسة ولا عقيدة ولا فكر فيه. موقف يرفض تقمص بشر لدور الإله في منح الحياة وحجبها، عنوة ومن دون استئذان، وفي أي مكان. وعندما لا يتحرك غير أهل الضحية، كما هي التفجيرات الإرهابية التي تطاول بيئة شعبية داعمة لحزب الله، نكون أمام نار تشتعل تحت قدر ليس فيه إلا فتنة وفتنة وفتنة!
المارقون المسرورون بهذا النوع من القتل، يأخذون على الضحايا أنهم يريدون إدانة من دون سؤال عن السبب. المارقون هؤلاء رفضوا سابقاً أي تبرير لإرهاب أصاب منظومة القيم العائدة لهم. رفضوا مجرد السؤال عن أصل المشكلة، فعلوا ذلك يوم 11 أيلول. وعندما طرحت أميركا على نفسها السؤال الصعب: لماذا يكرهوننا، رفض المارقون هنا أن تطرح أميركا مجرد السؤال. لكنهم، اليوم، يريدون دعوتنا الى التبصر في الأسباب التي تؤدي الى نمو الإرهاب بيننا، ويرفضون إدانته بأكثر من عبارات ترد باردة في كل ما يقولونه قبلها وبعدها. وهؤلاء، يريدون اليوم من الضحية أن تختار بين موتين: إما أن تنتحر بنفسها فتتخلى عن حقها بالدفاع عن نفسها، وإما أن تنتظر مصيرها على يد انتحاري قرر هو أن مصيرها الموت.
الشياطين يتكاثرون بيننا اليوم. شيطان يحمل شاباً أو مراهقاً الى حيث الموت المشظّى بلحم الآخرين. وشيطان يحثّ أهله على إرسال من يقتفي أثره في موت متسلسل على الشاكلة نفسها. وشيطان يرقص فوق الدماء كأنه ابليس يرفض التوبة لنفسه، كما يرفضها للآخرين. وشيطان أكثر قبحاً، هو الذي يعتقد أنه يقف على تل مرتفع وبعيد عن النار. يلقي التحية على قاتل، ويلقي اللوم على قتيل. وهؤلاء الشياطين موجودون اليوم في كل مكان. بينهم رجال دين وعلماء فكر، وبينهم سياسيون في مواقع عامة، وقادة في أحزاب فاعلة. وبينهم إعلاميون يلصقون على صدورهم إشارة المتنورين. وبينهم أصحاب تجارات ومصارف وأبواب أخرى لا تقفلها حروب أهلية ولا حروب خارجية. وبينهم نشطاء يركضون خلف رضى السفارات الأجنبية ومؤسساتها المانحة، سعياً وراء كذبة قميئة اسمها «المجتمع المدني»!
كل هؤلاء يرفضون الجريمة. لكنهم لا يفعلون شيئاً في مواجهتها. يعتقدون أنها ليست مسؤوليتهم. وهم في الحقيقة، يفترضون أنها جريمة منتقاة. جريمة موضعية لن تصيبهم بسوء. وهم، أيضاً، لا يرون من داع لرفع الصوت، لا في منازلهم، ولا في مكاتبهم، ولا في أسرتهم، ولا في أي مكان. فقط، هم من الذين يقفون فوق رأس الضحية، ويسألون عن سبب وقوفها في طريق الموت. ويسألون أهل الضحية أن يقدموا على الانتحار، حتى نبطل مفعول انتحار المجانين المنتشرين كالفطر في بلادنا التعيسة.
اليوم، دخل لبنان سوق الموت المجنون. وواهم من يعتقد أن علاجاً قريباً سيبرز الى السطح. وواهم من يعتقد أننا سنتجاوز قريباً هذا الفصل الدموي البشع. وواهم من يعتقد أن في مقدور أحد قلع هذا التعفن من جذره. وكل جهد يصدر عن الضحية وحده، هو جهد من يحاول إعاقة الجنون، أو تعطيله، أو تخريبه، أو إبعاده قدر الممكن عن الناس، لكنه جهد لا ينفع في قتل السم الذي يسكن عقول وقلوب ودماء آخرين من أبناء جلدتنا.
لكن، هل يدعونا ذلك إلى الاستسلام؟ وهل قبولنا بقدرة الجنون على نشر دمائنا يعني قبولاً به قدراً محتوماً؟
بالطبع لا، وهذه الـ«لا» ينطق بها عقل حكيم. لا يحكمها انفعال من أدمتهم الجريمة. ولا من يراد له التشبه بالقاتل فيصير أخاً له في القتل. وهي «لا»، تعني مقاومة هذا الوباء، ومكافحته، لا حيث أصاب فقط، بل حيث يظهر في فلتات اللسان، وحيث مختبر إنتاجه فيروساً يطير في الهواء. وتعني مقاومة عناصر الجذب له، سواء وجدت فينا أو في الآخرين حولنا. مقاومة تعني تعقيم الأنفس والعقول من كل أمراض الاستبداد والقهر كيفما تلونت. وتعقيم الأنفس والعقول والأجساد من كل انقياد أعمى، خلف طقوس أو تخيلات أو هذيان يسمّونه التاريخ المحتوم.
ليس لنا سوى مقاومة هذا الوباء، بدمائنا حيث يجب، لكن، ليس بحريّتنا التي ستبقى مصدر قلق لكل الشياطين!

السابق
«ليلة القدر» وحصة الجنرال عون
التالي
المطلوب من الجيش…