عن مأساة ثورتين في مصر والشام

مصادفة جميلة وغريبة أن يتزامن في وقت واحد مؤديان لثورتين: في مصر يعود العسكر إلى الحكم والسلطة في الذكرى السنوية الثالثة لثورة 25 يناير. وفي سوريا يقف «رئيس الشرعية الثورية» في جنيف، ليشكر القاهرة على استقبالها 30 ألف نازح سوري، ويغفل ذكر بيروت التي استضافت من السوريين أكثر من نصف عدد أهلها!

ففي مصر كان الأمر متوقعاً. منذ عامين ونيف، كتبت هذه الزاوية عنواناً مفاده: «عسكر وإخوان وأقليات». مضمونه أن ها هي منطقتنا. وها هي مصر بالذات، نموذجها وقاطرتها ومفرزتها السباقة. مكوّنة هي من ثلاثة عناصر لا غير: عنصر الإكراه المادي الذي تمثّله الجيوش. وعنصر الإكراه «الإلهي» الذي يمثّله الدين، وعموده الفقري في منطقتنا ما يرمز إليه «الإخوان المسلمون». وبين الاثنين عنصر الإبداع الإنساني الذي ترمز إليه الأقليات. والأقليات هنا وفي منطقتنا، ليست دينية، ولا هي جماعات أقلّوية مرصوفة على حدود مؤسسات الأديان. بل المقصود بالأقليات في هذا السياق كل الخارجين عن تصنيف العسكر و«الإخوان». ففيهم المرأة والمثقفون والإنسانيون والمتنوّرون في أي دين، وفي الإسلام أولاً، قبل الوصول إلى أهل الديانات الأخرى. لا وجود في المنطقة، ولا في مصر تحديداً، لغير تلك المكوّنات الثلاثة. حتى باتت قاعدة المثلث الجيومترية سيدة الموقف: فمجموع أي مكونين اثنين أكبر حكماً من أي ثالث. وحاصل اي مكوّنين اثنين، أصغر حتماً من أي ثالث. هكذا في 25 يناير 2011، تحالفت الأقليات مع «الإخوان»، فصار العسكر أقلية. بعدها تفتّقت عبقرية الإخوان عن عام من السلوك الإلغائي. فدفع مكوّن الأقليات إلى تفاهم مع العسكر. فسقط مرسي وعاد السيسي بكل طقوسية الديكتاتور. من دماء رابعة العدوية إلى النظّارات السود، انتهاء بهالة الدعوة القدرية، تلك المتجسدة في صورته طفلاً يؤدي التحية لعبد الناصر، فيحمل من تلك اللحظة مسحة ربّانية ليصير عبد الناصر الثاني!
كل هذا يعتمل في مصر اليوم. فيما رموز ثورتها الحقيقيون منسيّون. وبعضهم صار خلف القضبان، من زمن مرسي أو في زمن السيسي. لكن قد يكون في مصر شيء جدلي آخر. شيء من العنصر التكويني لأمة. شيء جيني خَلقي يتعلّق بلحظة ولادة تلك الأمّة، وبالتالي بكل لحظة من حياتها. شيء يلازمها كما «الشخصية القاعدية» للإنسان، كما الجانبية الهندسية (أركيتيب) لتكوين جماعة. فتواريخ بعض الأمم تظهر أنها لا تتغير في بعض مفاهيمها الأساسية أو التأسيسية. وأولها مفهوم السلطة. هي روسيا مثلاً. أمة عرفت ثورة وأكثر من ثورة. ودفعت ملايين من أرواح أبنائها في ثوراتها، وفي حروب أسباب الثورات أو حروب نتائجها. وإذا بها لا تزال هي هي. كأنها لا تعيش إلا إذا حكمها «قيصر» ما. كأن وجود «القيصر» عنصر جيني وراثي في تكوين مفهوم السلطة فيها. كأن موسكو لا تحيا ولا تستقرّ إلا في ظل قبضة «القيصر». تتقلّب وتثور وتتغيّر، ثم تعود مطمئنة إليه وإلى سلطته وسطوته. أكان من عائلة رومانوف، أو من عائلة فيساريونوفيتش (ستالين) أو من عائلة بوتين… هل تكون القاهرة أختاً لموسكو بهذا المعنى؟ هل هي مخلوقة على مكوّن جيني آخر اسمه «فرعون» وحكم فرعون؟ تمضي الألفيات بين نيلها والرمل والبحر، تعلو أمواجها وتعصف الرياح، تتغيّر الكثبان وتموج الضفاف، ثم لا ترسو إلا على «فرعون»، أكان من سلالة خوفو واخوانه، أو من «أحرار» عبد الناصر والسادات ومبارك والسيسي.
في المقلب الآخر من ثنائية القطبين، تبدو «الثورة السورية» في مأساة أخرى. فالحركة الاعتراضية على النظام هنا، ولدت وعاشت وتبلورت ونضجت فعلياً، خارج ثلاثية «العسكر والإخوان والأقليات» السورية. اجترحت لنفسها فضاء آخر لنموّها. غالباً ما كان فضاء اليسار الأصيل. هكذا، ورغم رفدها بأسماء من مختلف الانتماءات المناطقية والدينية، ظلت تلك المعارضة السورية الأصيلة خارج حركة الاعتراض الإخوانية الدموية، منذ أواخر الستينات وحتى اليوم. كما ظلّت خارج البعث طبعاً. وبالتأكيد خارج منطق «تحالف الأقليات»، الذي شكل أكثريّة سورية وازنة، بانضمام كتلة سنية كبيرة إلى النظام، في مواجهة أحادية الإخوان. هكذا كانت «الثورة السورية» الحقيقية والأصيلة خارج هذه التصنيفات. وهو ما جعلها تبتدع لنفسها لغة إيديولوجية خاصة، من أجل تبرير نفسها ووجودها. مطلع الألفية الثالثة، بادرت صحيفة لبنانية إلى نشر ملحق خاص عن تلك المعارضة، في زمن «ربيع دمشق». وكانت الخطوة بالتنسيق يومها مع بعض اركان «لقاء قرنة شهوان»، المعارض في حينه لوجود الجيش السوري في لبنان ووصايته عليه. فجمع الملحق المذكور كل أقلام تلك المعارضة السورية تقريباً. حتى كانت المفاجأة والصدمة لدى زملائهم اللبنانيين. إذ سرعان ما اكتشفوا أن جوهر تلك «الثورة السورية» مسألتان: أولاً أن هؤلاء الثوار يعتبرون سلطة الأسد سلطة عميلة لواشنطن ودمية في أيدي سياساتها الإمبريالية ومنفّذة خبيثة لأغراضها في بلادهم والمنطقة. ثانياً، أنهم يعتبرون من كبائر تلك العمالة، تساهل نظام الأسد في اعترافه بلبنان دولة مستقلة، وتعويضه عن هذا الاعتراف المرفوض، بمحاولة استتباعه سياسياً وجعله جرماً سابحاً في فلكه.
تلك كانت نواتات الحراك السوري المعارض. فلما أتيح لهؤلاء المعارضين أنفسهم أن يصيروا «ثورة»، أو حتى مشروع سلطة، وجدوا أنفسهم حلفاء لواشنطن التي كانوا يتّهمون النظام بها. ووجدوا أنفسهم مسلوخين عن لبنان الذي كانوا يخوّنون النظام بتركه مستقلاً. هكذا دخل هؤلاء في نزاع مع ذواتهم، شلع فكرهم ونفسياتهم وخطابهم ولغتهم، حتى البلبلة والتناقض. وحده الجربا حاول ــــ عن وعي أو لا وعي ـــــ أن يكون منسجماً مع نفسه السابقة، ولو في نقطة. فلم يشكر لبنان، ولم يذكره. لأنه غير موجود أصلاً. وهم السوريون في نزوحهم إليه، يقومون بهجرة داخلية. هي بلاد الشام أصلاً، التي تنتمي إليها عشيرة الجربا، وعائلته بالذات. تلك العائلة التي يروي احد كتب التاريخ منذ قرنين، أنها كانت من «عملاء الوهابيين». هي بلاد الشام إذن، انسجاماً مع ذات ساقطة، ومع وهم أندلس مشرقي، ومزايدة حتى على «داعش»!
هي مأساة «ثورتين»، في أرض تثبت فعلاً أن الأرض تدور على نفسها.

السابق
ويتساءلون: لماذا لا يزور كيري لبنان؟
التالي
حملة الدعاية الصينية ضد اليابان