الأزمة من باب الأمن

أولى وظائف الدولة وأهمها على الإطلاق الأمن. يرتكز الأمن على عناصر أخرى هي العدالة والنظام السياسي والاقتصادي. من دون الأمن نكون في «مجتمع اللا دولة». هناك طبعاً أشكال مختلفة للأمن حيث العنف والقوة هما الأساس في الأنظمة الشمولية الاستبدادية، أو حيث العنف والقوة يظلان في خلفية المشهد أو كخط دفاع أخير وتتقدم سلطة القانون الآمرة والتنظيم السياسي والاجتماعي على أساس عقد اجتماعي يحظى بالرضا والقبول.

لم يعرف لبنان النظام الشمولي أمنياً أو عقائدياً بسبب تكوينه الاجتماعي والديموغرافي التعددي وإرثه الليبرالي منذ قرون عدة. الأزمات الوطنية كانت دائماً مرتبطة بنزوع فريق سياسي أو طائفي لتغليب الوجه الأمني أو العقائدي جواباً على مشكلات «العقد الوطني». أصعب هذه المشكلات ما نحن فيه اليوم لأننا نواجه ثقافات سياسية دينية مناقضة لفكرة الدولة الحديثة. لا تعترف هذه الثقافات بالكيان الحقوقي الدولي ولا بالمرجعيات القانونية الوضعية التي تنشأ عنها السلطة ولا بالثقافة المدنية التي تعترف للآخر بأنه يتمتع بالمساواة الكاملة في الحقوق المدنية والسياسية والدينية. الثقافة الدينية بطبيعتها حصرية مركزية حول نفسها ولا تقبل مفهوم «الدين الواحد» أو «المشترك» ولا علاج لتناقضاتها إلا بعيداً عن المسرح السياسي الذي هو مسرح صراع على السلطة. المشكلة تبدأ من هنا وتتدرّج في عملية الإقصاء والإلغاء والتكفير والعنف، بحيث نجد الفروقات على هذا الصعيد بالدرجة لا بالطبيعة. دخول التيارات الدينية في العملية السياسية مدعاة إلى تجذير العنف بسبب الطابع المقدس المرتبط بالنزاع بين الثقافات الدينية. لا يمكن إطفاء الصراع الديني إلا من خلال إطفاء الصراع السياسي. فلا تعالج مشكلات من هذا النوع بالوعظ الأخلاقي والاحتكام إلى القيم الدينية المشتركة ما دام هناك صراع على السلطة. بدأت الأزمة في لبنان لحظة تحولت هذه الجماعات إلى ممارسة دور سلطوي في الداخل وعلى مستوى المنطقة، وما زالت تغتذي من التداعيات المتزايدة.

لعشر سنوات خلت لم تكن الجماعات المتطرفة في لبنان ذات تأثير أو وزن ولم تكن لها «بيئة حاضنة» ولم تكن لها قضية. عرفنا سلوك هذه الجماعات في مصر والجزائر في الثمانينيات والتسعينيات كأحد مظاهر الإحباط وكرد على الكبت والقمع السياسيين. كانت المعالجة الأمنية ممكنة في أنظمة شديدة القوة وفي مجتمعات ذات هوية دينية واحدة. ما نشهده في لبنان مرتبط بظروف سياسية مساعدة من بينها المحيط الإقليمي القريب وضعف الدولة الذي بلغ حداً كبيراً ووجود محرّضات. ما يسمى «بيئة حاضنة» هو في التقاء التطرف والتكفير مع ما يُحكى عن «مظلومية» هي مظلومية سياسية. لسنا أمام حالات من الاضطهاد الديني بل أمام علاقات متوترة غير صحيحة بين جماعات تتخذ لنفسها صفة دينية أو مذهبية. مدخل المعالجة ليس التوصيف الثقافي أو العقائدي وبماذا تؤمن هذه أو تلك، بل من خلال إجابات سياسية.

لا يستطيع لبنان أصلاً أن يتصرف كدولة أمنية بوليسية، ولا كدولة ملتزمة بهوية دينية أو عقائدية ولا أن يتبنّى خيارات لمكافحة اتجاهات عقائدية. من واجب الدولة أن تلاحق العابثين بالأمن وكل شكل من أشكال الخروج على القانون ولكن من دون تمييز أو محاباة ووفق ضمانات يعطيها نظام العدالة القضائية. ومن أسف ليس هذا هو السائد أو المعمول به. أصبحت هيبة الدولة مستباحة لأن معظم سلطتها قائم على التراضي. ولا يمكن استعادة هذه الهيبة من دون إرادة سياسية جامعة تحدد بالضبط ما هو شرعي وما هو غير شرعي بالتصرف. لا يمكن فهم ما يجري في طرابلس إلا أنه تقصير سياسي يصدر عن إرادة غير حاسمة في موضوع الدولة. السلاح في طرابلس ليس جيباً حدودياً مع سوريا خارج السيطرة. هناك تسليم متعمّد لدى الطبقة السياسية بأن يكون للجماعات الطائفية سلاحها وأمنها الخاص ربما لأن ذلك ينسحب على باقي المناطق اللبنانية. إن الثمن الذي يدفعه الجيش والمؤسسات الأمنية كما يدفعه المواطنون مجاني بالمطلق. ولا أحد يعرف كيف يسود الهدوء ثم كيف تنفلت الأوضاع.

نموذج طرابلس هو وصفة سهلة لكي تلجأ كل الفئات السياسية وغير السياسية إلى التجرؤ على الأمن السياسي والاجتماعي. فإذا كانت هذه المدينة الرافضة بأكثرية مواطنيها الساحقة لدورات العنف لا تحضنها الدولة، فكيف إذا تحوّلت الحدود اللبنانية إلى مسرح للصراع المسلح. هل لدينا إرادة لبنانية لمعالجة الأمن أم اننا كغيرنا بصدد «حكومات انتقالية» لم تتبلور إرادتها الوطنية ولا رؤياها السياسية لحل مشكلات تفشل هكذا قوى سياسية في معالجتها؟

السابق
أميركا تعاود اكتشاف لبنان!
التالي
سلام: لا مساومة على المداورة