الطفولة السنية الشيعية

الشيعة والسنة

يحدث مع الراشد الذي تعذّب في طفولته أن يصبح أباً. وعندما يشرع في تربية أبنائه، وتتعثر هذه التربية لسبب من الأسباب، تصحو طفولته المعذَّبة بالفظاظة والقسوة التي كانت عليها. تحيا، هذه العذابات، بعفوية بالغة، بتهور من يدافع عن خطئه، وبحضور قوي، شبه سينمائي، لمشاهد الطفولة البائسة. وعندما يهدأ راشدنا، ويسأل نفسه، أو يُسأل، عن أصل عنفه، يجيبك بأنه تلقى التربية نفسها، وبأن أبيه أو أمه لم يقلّا عنه قسوة تجاهه هو وأخوته. هو إذن على هذه التعاسة مع أولاده لأن أبويه كانا على الدرجة نفسها منها. أما أبوه، فلماذا عامله هكذا، فلا تبحث كثيرا: هو أيضا عرف طفولة بائسة مع أب لا يرحم وأم مثل شيطان اخرس، تشهد على التدمير الروحي لولدها، ولا تستجيب، مذعنة ومسكينة. هكذا، سوف يتربى إبن راشدنا كما تربى جده وأبيه: ولن يقصّر بدوره، عندما ينجب، في إطالة حبل التعاسة حول عنق هذه العائلة، من مؤسسها وحتى آخر حفيد من سلالته؛ ويكون بذلك قد دخل في أتون لن تنتهي دوراته، ولا أجياله… كل صراع نفسي يحيلك الى بئر بلا قعر من المرارة والحقد والغلّ، كل درجة منه حكاية جديدة مختلفة مربوطة بخيط النشأة التعسة الأولى، ولا من يكسرها، تلك الحلقة المفرغة… هكذا، إلى أبد الآبدين.

لا تختلف قصة النزاع الشيعي السني عن قصص العائلات غير المحظوظة بهناء طفولتها. كانت بداية الإسلام، طفولته، أكثر من مأساوية. تخللتها، بعد وفاة الأب الاول، حروب على وراثته، حروب عنيفة، دموية، مستمرة، بلا هوادة. لم تستقر يوماً إلا لتعدّ للمزيد. هكذا تشكّل تاريخ الإسلام، العربي على الأقل، من أكثرية سنية حاكمة بالسيف، وأقلية تناهضها، بالعلم وبالسيف أيضاً، فتَهزم حيناً وتُهزم غالباً. لكن اللوحة العامة بقيت على حكم “سني” أكثري، يهمش من خرج عن ولائه من مسلمين، باتوا مع الوقت فرقاً دينية نظراً لاندماج الدين بالسياسة في تلك الأزمنة؛ أعلاهم عددا الشيعة ومن بعدهم علويين ودروز وزيديين وأباضيين… الأكثرية السنية، في مراحل طويلة من تاريخها مع الشيعة، وأخواتها، عاملتهم كما عاملت الأقليات الدينية غير المسلمة؛ بصفتهم أهل ذمة. بل أحياناً أقل، في أوقات إحتدام النزاع على السلطة بين الإثنين.

هذا عن التاريخ. أما عن الواقع الحالي، فان النزاع الإقليمي الشيعي السني، لا يملك من ذخيرة “فكرية” لتبرير عنفه ودمويته إلا تلك الطفولة البائسة التي عرفها الإسلام في أوله. من دون أي استئذان، من دون ليّ عنق أية حقيقة، تكون روايات هذا النزاع وحججه ومطالعاته كلها تدور حول المآسي الأولى لهذه الطفولة. بمظلومية من جهة الشيعة، وبحنق من لم يعهد إعادة النظر بسلطته من جهة السنة، يدخلنا هذا النزاع الدموي الى صميم الخلافات العائلية الأولى التي أحزنت الإسلام وأدمته. وهي على كل حال أحزان لم تنل حقها من التأريخ لشدة ما ارتدَتْ وقائعها من تكريس رسمي، على جانبي المذهبَين. المهم اننا دخلنا، وبفضل هذا النزاع، لا للبحث في كيفية إصلاح أخطاء الطفولة، بل في مناخات الطفولة نفسها، في قصص عمر وعثمان وأبو بكر وعائشة وعلي والحسين، عليهم السلام جميعاً. وفي مماحكات لا تستند إلا لواحدة من الروايتين “الرسميتين”، حول من اخطأ بحق هذه الطائفة أو تلك؟ من بدأ بالنزاع؟ من شنع؟ من…؟ ليتحول التأريخ الى عمل قضاة الأطفال، الذين يشنقون انفسهم (“قاضي الأولاد شنق حالو”).

ان التورط السني الشيعي بالقتال يشبه الى حدّ بعيد الدخول في الأتون نفسه الذي يغوص فيه من كانت طفولته تعيسة، فأراد لها ان تستمر، تلك التعاسة، ثأرا من أبيه، وبذريعة تعاسته. السنة والشيعة يتقاتلون اليوم لأن أجدادهم لم يعرفوا كيف يوزعوا السلطة في ما بينهم بالعدل. لم يكونوا يعرفون غير لغة السيف، القوة. اما اليوم، فالسنة والشيعة على علم بائن بالطرق الاخرى لحل نزاعهم الطفولي، ولكنهم مصرون على عدم كسر حلقتهم المفرغة القاتلة، متمسكون بالجحيم الأبدي. إنهم يعرفون بان هناك الطريقة الديموقراطية لكسر تلك الحلقة، ولكنهم مصرون على أن يبقوا أطفال آبائهم القساة… فيا أمة شاخت ولم تبلغ بعد سن الرشد!

السابق
عون تبلّغ «استعداد 8 آذار وجنبلاط للقبول بحكومة حيادية»
التالي
اهالي عرسال يدعون حزب الله الى الكف عن مضايقتهم