الصحّاف في جنيف

حتى المعترضون على استخدام مصطلح “العقل السياسي العربي” يقرون بأن منهجا واحدا في التفكير استمر رابضا على العقل الحاكم منذ منتصف القرن الماضي ، وجسدته التيارات القومية باتجاهاتها كافة ، ولا سيما حزب البعث بنسختيه العراقية والسورية .

وزير الاعلام العراقي الصحاف ، صاحب لغة ” العلوج” كان حاضرا في مؤتمر جنيف 2 ، لا بشخص وزيري الخارجية السوري واللبناني ، بل بذاك العقل العربي ذاته المتخلف عن لغة المفاوضات والمؤتمرات والتسويات .

تقرر عقد المؤتمر في مونترو ، المعروف باسم جنيف 2 ، للبحث في تنفيذ مقررات جنيف 1 ، وعلى وجه التحديد البند المتعلق بتشكيل حكومة انتقالية تشارك فيها المعارضة ، ويكون من شأنها إخراج سوريا من دوامة العنف الدموي ووضع حد لاحتكار السلطة من جانب حزب البعث، فضلا عن أمور أخرى كتأمين ممرات آمنية للمساعدات الانسانية وإطلاق سراح الأسرى وفك الحصار عن بعض المدن ، الخ . ليس ذلك من قبيل التخمين ، بل هو ورد صراحة في نص الدعوة الموجهة إلى المشاركين وفي الكلمة الافتتاحية التي ألقاها الأمين العام للأمم المتحدة . وقد استبعدت إيران من حضور المؤتمر لأسباب شتى ، على رأسها عدم موافقتها على حصر جدول العمل بتنفيذ مقررات جنيف واحد .

ولم يكن عقده ممكنا لولا جريمة السلطة الكيماوية وما تلاها من مفاوضات صعبة بين الدول الكبرى وخصوصا الولايات المتحدة وروسيا ، ولولا اتفاقهما على هذا المخرج ، بديلا عن استمرار الحرب الضارية بين حزب السلطة وأطراف المعارضة ، وبديلا أيضا عن ضربة عسكرية أميركية للنظام السوري لم تكن موسكو لتمانع بحصولها إن اتخذت واشنطن قرارا بشأنها .

وهو ليس مؤتمرا لحل مشكلة محلية الطابع ، حتى لو كانت ساحتها محصورة في بلد اسمه سوريا وفي البلدان المحيطة بها أو منتشرة على اتساع منطقة المشرق العربي كله أو الشرق الأوسط كله أو الربيع العربي الممتد افتراضيا من المحيط إلى الخليج ، ولذلك شمل الحضور ممثلين لأكثر من أربعين دولة من بينها الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن .

رغم كل ذلك ، بدا وزيرا الممانعة ، السوري ورديفه اللبناني ، وكأنهما يلقيان خطابيهما خارج القاعة بل خارج سياق الدعوة وخارج سويسرا وخارج العصر. بل إنهما قدما صورة مزرية عن العقل العربي الحاكم بخروجهما عن آداب الحوار ومصطلحاته وآلياته ، وبتضمين خطابهما انتهاكا للقيم الديمقراطية والأخلاقية : الكذب وعدم الاعتراف بالآخر.

هل يعقل أن يكون الوزيران جاهلين تماما أن المؤتمرين مزوّدن بكل المعلومات الصحيحة عما يحصل في سوريا ، وبمعلومات دقيقة عن قصة حزب الله من أول نشوئه على يد الحرس الثوري إلى آخر تدخله في النزاع السوري الداخلي ؟ كان عليهما التأكد من أن المؤتمرين لا ينتظرون تقريرا إخباريا سمجا وطويلا ومملا لأنهم يميزون جيدا بين القاصف والمقصوف ، وبين المرعب والمرعوب والقاتل والمقتول ، يعرفون من قصف بالكيماوي وبالبراميل المتفجرة ، ويعرفون جيدا هوية الارهابي الرسمي وهوية صانع الارهابي المضاد. يعرفون ذلك خصوصا لأنهم سبق أن شاركوا في صناعته حين تهيأ لهم أنه الأداة الناجحة لمحاربة بعبع الشيوعية منذ نصف قرن أو يزيد. وهم اليوم يعرفون كل كبيرة وصغيرة، لأن أجهزة مخابراتهم تلاحق كل قنبلة أو رصاصة من مصنعها إلى ميناء تصديرها حتى إلى اسم مطلقها. فهل من حاجة إلى مثل هذا الخطاب الممل والمقرف الذي يتوسل البلاغة اللغوية لإقناع من باتوا لا يقتنعون بغير لغة العلم والأرقام والأوزان؟ وهل يعتقد هذا العقل المتوقف عن النمو، منذ عقود ،أن اللغة ( بقر البطون وسمل العيون وسلخ الجلود ، الخ الخ ناهيك عن لغة الشتائم والهجاء السياسي المقذع) ، وهي كلها لا تحمل قيمتها البلاغية ذاتها بعد الترجمة ، قادرة على نقل الحقيقة من الميمنة إلى الميسرة ، أو أن اللجوء إلى الكذب الصريح سيغير وجه الحقيقة ؟

من يستمع إليهما في مونترو، ومن يستمع إلى ضحالة الدفاع في المحكمة الخاصة بلبنان في لاهاي يتيقن من حقيقتين : الأولى اصرار العقل المسيطر على الاعتقاد بجدوى الاكثار من الكلام وتكبير الكلام ، من غير الانتباه إلى إن الحروب “الحنجرية” أو ” البلاغية” لا تستدرج غير سخرية الخصوم وقرفهم . والثانية إصراره على عدم التمييز بين المناورة السياسية والكذب ، ما يضاعف منسوب القرف والسخرية.

السابق
جيش العدو ينفي اصابة جندي له
التالي
الحياة: تحسس عون من بري بدا واضحاً للعيان