يوم نزف قلبي… ونجت عزّة

تفجير حارة حريك

الرويس، الثلاثاء 21- 1- 2014، الساعة السابعة صباحا… يوم عادي، يزحف إلى زواريب الحي، مع أشعة الشمس التي باشرت باكرا بمطاردة فلول الصقيع. بكثير من الجلبة فتحت المحلات والدكاكين أبوابها، ونهضت الأصوات من خلف ستائر الشرفات المبللة بالندى، أمهات يستعجلن أطفالهن النهوض إلى المدارس، على إيقاع أبواق الباصات في الأسفل.

الشمس دخلت المطبخ قبلنا، معلنة انتظام الطقس الصباحي. الركوة على النار، إبرة الراديو على صوت فيروز، الشباك العريض مفتوح على بستان الليمون الأخير في حارة حريك، الذي تحول إلى مكب لنفايات الشقق المتعملقة حوله، منذ قررت جارتنا المسيحية “اغيت” هجر بيتها الذي يتوسطه, منتصف الثمانينات، إلى بيت آخر في مكان يشعرها بأمان فقدته بيننا.

تمام الثامنة…تنقشع غمامات الصخب المبكر، ينفرج النهار عن طقوسية تراتيبة. يعلو صوت “حيدر”: قهوة، شاي بالزنجبيل، نسكافيه، أركيلة، يستفتح “راجي” بزبون مستعجل، تفتح “أم جلال” باب صيدليتها، “أم حسين” تعزم الرائح والغادي على فنجان قهوة وسيجارة في دكانها، وينشغل “هيثم” بالرد على اتصالات المعجبات التي أهملها مساء. تتصاعد روائح القهوة ومقدمات طبخة اليوم تختلط بروائح الغسيل والشطف، تنشط حركة العابرين في كل الاتجاهات، وتزداد وتيرة السيارات المتدفقة فوق الجسر وأسفله.

خرج “عاصم” كعادته متأخرا إلى عمله قرب مقهى نارة خلف المنزل، ارتجاج الباب الحديدي خلفه وارتطام قدميه بدرجات السلم كفيلان ككل يوم بإيقاظ من تأخر عن النهوض إلى عمله من الجيران، “عزة” مازالت مسترخية تحت اللحاف، رن المنبه، فأسكتته، وعادت إلى النوم مجددا.

تمام العاشرة…حركة الشارع تواصل تقدمها نحو الذروة. لكنها لا تصل، كما في الأيام الخوالي، رهاب الإنفجارات يتحكم بفضائها، لا يخرج إلا من لديه عمل ضروري، حتى الأعمال الضرورية صارت تخضع للتأجيل تحسبا أو حذرا.

“عزة” مازالت نائمة، استخدم كل أساليبي الداعشية لإيقاظها، تتكاسل، تناور، أسحب عنها اللحاف، فتستسلم. تنهض، تلعن الشتاء وساعته، وتتدثر بعدد من الكنزات الصوفية، كأنها في طريقها إلى القطب الشمالي. صغيرتي ذات الحساسية الشديدة على البرد منذ ولادتها، تصنف نفسها من المخلوقات ذوات العظام الباردة. “سيتسبب البرد بطردي من عملي يوما ما”، تقول، وتودعني.
عقارب الساعة تكاد تلسع الحادية عشرة…أخرج إلى الشرفة، كل من في الحي يعمل شرطي سير عند “عزة”، يساعدونها في إخراج السيارة من الموقف، رغم هذا لم تنج جنباتها يوما من لكزة عشوائية. تلتف باتجاه الشارع العريض، تغيب عن نظري، فأعود إلى مطبخي.

تمر خمس دقائق…يقتحم الدوي سكينتنا الهشة مجددا، هذا هو الصوت الذي نحاذر سماعه، الذي نقضي أيامنا محاولين التغلب على حقيقة حصاره لنا، الذي ندير إليه ظهورنا، كما نديرها إلى متطفل يحاول حشر نفسه في تفاصيل حياتنا. أنثني على قلبي، وأقول “هل جاء دوري؟”. تخطر في بالي ألف فكرة مرعبة، ترتسم أمامي صور أحباب وأصحاب فقدتهم ذات انفجار، مشاهد أمهاتهم يسرن خلف جنازاتهم، أستعيد نواح “أم علي بدير” وهي تغرف من دماء أطفالها الأربعة وتمسح بها وجهها يوم قطعت قذيفة حاقدة أجسادهم في النبطية الفوقا، أتذكر وجه “زهور” قبل ساعات من انهيار مبنى الكابيتول في النبطية في حرب تموز، وأتخيل جسد “حسن” ابن عمي مسجى وسط الدار يوم عاد شهيدا من جبل صافي.

يقبض الجزع على روحي، إنها المرة الأولى التي يكون فيها أولادي في خطر أنا في مأمن منه، ليس أتفه من النجاة في هذه الحال، وأحقر الشعور بالأمان. أستجمع ما بقي من هدوئي، وأطلب رقم ابنتي قبل انقطاع الخطوط، لا ترد، أحاول ثانية وثالثة، عبثا! أتصل ب”عاصم”، النتيجة ذاتها. أرمي التلفون أرضا، وأصرخ بكل ما لدي من حرقة، أبكي، أولول، أضرب وجهي بكلتا يدي، أكرر الإتصال بنهم جائع، تنقطع الخطوط…

أهب إلى الخارج، أراقب حركة الراكضين، أسمعهم يقولون في الشارع العريض أيضا، على مقربة من الإنفجار السابق، يجتاحني هدوء الإقرار بالخسارة، أنهار في مكاني، أتكوم على نفسي، كسجين يعد سياطا يتلقاها، أحاول التشبث بأضعف أمل يحضرني، أعيد حساب الوقت بين خروجها ودوي الإنفجار، يكذب عليّ قلبي بدقيقة يحشرها قبل أو بعد، يطمئنني أنها ربما تكون كافية لتهزم الموت، لتنجو كما نجت “نوار” ابنتي الكبرى من عناقيد الغضب، التي كادت تقطف عناقيد طفولتها في عز نيسانها، كما نجا “عاصم” صدفة، من انفجار الرويس منذ أشهر، كما نجونا كلنا يوم هربنا من النبطية إلى زبدين أثناء حرب تموز، نفتش عن ملجأ يحمينا من حمم الطائرات الإسرائيلية، فوصلنا والصواريخ إليها، وشهدنا كيف تتطاير الجثث في الهواء، وتهطل الدماء فوق الرؤوس كالمطر.

نعم، نجونا من موت محتم أكثر من مرة، في كل مرة، كنت أعد خطط الهروب بخبرة قائد ميداني وأنجح. ساخرة من ذكاء آلات القتل. لكن ماذا دهاني اليوم؟ كيف غادرني حسي الأمني، ربما غدرني؟ هل أرسلت ابنتي إلى حتفها بنفسي؟ يا إلهي…أجبرتها على النهوض، رجتني ألا أوقظها، أن تبقى في المنزل، وأتدبر لها تقريرا طبيا لتبرير غيابها عن العمل. يا إلهي…كيف سأكمل حياتي وعلى كتفي ذنب بثقل هذه السماء؟ هل حقا سأكمل حياتي؟ أي حياة تنتظرني؟ كيف تعيش أم رمت ابنتها في النار؟ أي نار ستلتهمني؟

الساعة الثانية عشرة…مرت ساعة وأنا أحترق بين النار والنار، يئست من محاولات الإتصال، الصبر ما عاد جميلا، صار عقابا، عذابا لا يطاق. استنفذت كل طاقات الأمل، كل ما اختزنته من تفاؤل وحب للحياة، منذ أصبحت أما…في اللحظة الفاصلة ما بين الاستسلام والرجاء، حملت إلي “سارة” البشارة.

تلقيت الخبر ببرودة لم أجد تفسيرا لها بعد، ساكتة دون أي انفعال أشعلت سيجارة، وخرجت إلى الشرفة، أنظر إلى مدخل الحي. منذ دقائق كان يفيض رضا بيوم قليل الرزقة، وطيب عشرة يحول دون هجره واستبداله بكل أحياء الدنيا ولو كانت أكثر عطاء. أعاود النظر في العيون، ألمح فيها إيحاءات ضعف إنساني أمام احتمال القتل الفجائي، متفرسة في الوجوه أقرأ تعابير تذهل عندها كل الحدود الدنيوية المصطنعة، يتساوى فيها الفقير والغني والضعيف والقوي والصغير والكبير والذكر والأنثى.

لا شيء يلمع جوهر إنسانيتنا مثل الإحساس بدنونا من الموت أو دنوه منا، ثم نجاتنا منه، لا يظهر الحسن إلا ضده…نحن أبناء الرمق الأخير، أبناء الصدف العابرة، والموت العابر، والحياة العابرة. كل من بقي حيا منا، لم يبق حيا لأنه عمره طويل، بل لأن الموت لم يهزمه حتى اللحظة، وقد يهزمه في أي لحظة. من منا لا يملك ذكرى عن صدفة نجاة؟ عن تملص عرضي من قبضة الموت؟ حياتنا خيال، واقعنا الحقيقي هو الموت، نحن نعيش، ليس لأننا نستحق الحياة، بل لأن الموت لم يقرر اختيارنا بعد، علاقتنا بالموت، كعلاقة الأجسام بظلالها، الموت هو انعكاس وجودنا.

السابق
المفاوضون في جنيف 2: مساعي للتغلب على عواطفهم السلبية
التالي
أبو سياف الأنصاري يعلن من طرابلس مبايعته لأمير “داعش”