يوميات «الرعب المدنّس» من الجزائر إلى لبنان الدين عندما ينتهك السياسة

المقالة مهداة إلى ضحايا «عجزنا»… إلى محمد الشعار وملاك زهوي وعلي حسن خضرا وعلي بشير وماريا الجوهري وأطفال عرسال وباقي الشهداء.
اننا متفقون في ردود أفعالنا، على أننا عاجزون. عاجزون عن مواجهة القتل. وإننا تدربنا بسرعة، تأسيساً على العجز، كي نصبح ماهرين في «علم التوقعات» التي ثبت أنها تقع.
العجز، هو عنواننا الفكري والعملي. دولة عاجزة، أمن عاجز، أحزاب وتيارات عاجزة، إعلام عاجز، وأناس هائمون على خوفهم، يقودهم عجزهم إلى شعور ارتعابي، وإلى «تصفية دماغهم» من الحلول، وإلى تشوهات نفسية وإنسانية ووجدانية وسياسية.
العجز، هو ما نتصف به. عجز عن التفكير، عجز عن تدبر شؤون حياتنا اليومية، عجز عن التفسير، عجز عن الفهم، عجز عن المعرفة، عجز يضعنا في حالة استعصاء مع التأقلم، إذ لا يتأقلم الإنسان مع عذاباته المستعادة. يصاب بالذعر والرهاب، يتحول إلى قط شارد، يتوقف عند ناحية الانفجار، ليبكي حاله، وهو يبكي ضحايا بريئة، تشلَّعت في الضاحية وطرابلس والهرمل وعرسال وبيروت وصيدا. ينتحي زاوية ليتفقد جسده المرهون لغد قاتل. يفزع إلى عائلته وأصدقائه وأهل بيته وحارته، كي يطمئن، موقتا، على من ظل على قيد الحياة المؤجلة.
لنعترف أننا بعد كل مذبحة، بعد كل انفجار، بعد كل اغتيال، بعد كل حالة جنون، نخرج منكوبين ومدمرين ومحطمين ومشوهين، على وشك اندثار الروح… اننا نتشلع وجدانيا ونفسياً وإنسانياً. دموعنا على الضحايا والشهداء، وأحزاننا ترافق أهلهم إلى معاقرة الفجيعة. نشاركهم أحزانهم، كتمرين على استقبال أحزان شبيهة… لقد نجح الارهاب الديني في تحويلنا إلى كائنات مهددة بعقوبة الموت، لمجرد كوننا كائنات حية، تولد وتنمو وتشرب وتأكل وتعمل وتنجب وتعيش من دون أن تكون قد ارتكبت ذنباً. فأنت معاقب لمجرد كونك كائناً حياً فقط.
هنا، لا تجد تفسيراً لوجودك الحيادي، أما إذا كنت منتظماً في حراك اجتماعي أو سياسي أو فكري أو في مشروع حرية وديموقراطية ومقاومة، فالتفسير الوحيد ينطلق من التكفير. ومع ذلك، يعصى التفسير. هناك حالة استعصاء تامة، فلا تفسير ولا تأويل يجدي في محاولة فهم التوحش، في محاولة فهم من ينتهك المحرمات، باسم الدين ورب الدين.
لا نجد من الصواب ان نتفلسف أو ان نفكر بأصول هذا التوحش، فالأصل، والتاريخ شاهد، هو أصل واحد، لأهل الحكمة والعقل والرحمة والإيمان والخير، ولأهل الجنون والفتنة والقتل والانتقام… الأصل واحد، بين من يريد أن يؤسلم نفسه بالإيمان والتقوى والتراحم والحب والعدل، وبين من يريد أسلمة الأرض وأسلمة السماء كذلك، بكل ما أوتي من بربرية ووحشية ودموية.
إن الواقع يسفه الأقوال الجميلة والنوايا الحسنة والأفكار الصائبة. لذلك، ليس مناسباً أن نعود إلى «الكتاب» ولا إلى «السيرة»، لنبحث في مآلات العنف الديني وفظائعه. يكفي أن تقف على ناصية الضاحية، أو في زوايا المسجدين في طرابلس، وفي ما ترامى إلينا من انفجارات متنقلة، كي نفهم، بالحواس الخمس، معنى الإرهاب.
لدينا، نحن اللبنانيين، «معرفة حميمية» بذلك. كما عرفه الجزائريون من قبل، عندما تحول المجتمع إلى «ثعالب دينية» مفترسة. كما عاشه السوريون، في مشاعات العنف الرسمي والديني، كما يعيشه العراقيون في تواصل الذبح والانتحار. يكفينا من الحميمية ما يلي: «الإرهاب، هو الخروج صباحاً من المنزل لقضاء المرء حاجاته اليومية وهو يدرك أنه قد لا يعود مساءً إلى منزله حيا. (هل تعرفتم إلى سير الشهداء في الضاحية وطرابلس والهرمل وبيروت وعرسال و… ثم و…؟)… وأنه هو أرسل أطفاله إلى المدرسة، فيما الخوف في الأحشاء، مصحوباً بدعاء حتى يعودوا سالمين ومعافين”.
إن ماريا التي قتلت عمداً، لأنها كائن حي يقطن في منطقة مختارة للتصفية، كانت على بشاعتها، أفضل من مأساة نون؟ (لاحظوا أننا نفاضل بين قتل وقتل، بين موت فاضل وموت قاتل، بين موت بانفجار أو موت بنصل السكين، بين همجية من صنف أول وأخرى من نوع بدائي، بين بريء يتساوى في براءته مع الضحايا الآخرين، ولكنه لا يتساوى في ذمة الإرهابي الديني). ماريا التي قتلت عمداً بسبب براءتها، نجت من مأساة نون. ونون، طفلة صغيرة في العاشرة، أرغمها الارهابيون الدينيون على أن تضع فوق ركبتيها رأس أبيها الذي أقدموا، للتو، على قطعه. لقد تجمّدت من الرعب، وظلت على هذا النحو مشلولة… ومنذ ذلك الحين، أصيبت نون ببكم كامل. وربما تكون هذه طريقتها لتقول لنا أنها تفضل الحجر على البشر» (مقتبس من كتاب Liess Boukra – Algérie la terreur sacrée).
لا رغبة لدينا بسماع تفسيرات سياسية لبنانية بائتة حول أسباب اندلاع الإرهاب والتكفير عندنا. فات أوان الأقوال. بئس التبريرات المتبادلة. بئس الاستنكارات من أطراف الشفاه. بئس الفرح المتبادل بين الخصوم، لدى سقوط الضحايا المصنفين مذهبيا. عار أننا بلغنا درجة دنيا، أقل ما يقال فيها، إننا فقدنا إحساسنا الإنساني. أنه لأمر فظيع أن يلتذ إنسان بآلام الآخرين. لا وحشية تفوق وحشية التمتع بالفريسة البريئة.
ليتهم يخرسون قليلا. ليتهم يبعدون عنا كأسهم السياسية التي تجتر فيها المياه الآسنة التي تشبه أقوالهم الآسنة كذلك. ان تنسيب الارهاب إلى غير واقعه المعاش، هو بمثابة إصدار عفو عنه. ولا عفو لمن يقتل بلذة ونهم. ومحاكم واقية أخرى، تشبه من أقدم على قتل عائلته وقتل نفسه قبل أن يقع في أيدي «الدواعش».
في الكتاب المذكور أعلاه حكاية، يمكن لأصحاب الأرواح الهشة التغاضي عنها وعدم قراءتها: «إن معرفة الارهاب ينبغي أن نسأل عنها هذه الأم التي استفاقت على أصوات انفجارات، فسارعت إلى جمع أطفالها وانبطحت أرضاً وإياهم، في الظلام، في زاوية غرفة، بالقرب من نافذة، وهي مستعدة لرميهم خارجاً، وهي تسكن في الطابق الخامس. كانت تفضل رمي أطفالها من النافذة على أن تراهم يقعون بين أيدي «بهلوانات الموت» موفرة على نفسها، هكذا، رعب الاغتصاب والذبح. إنها أم شجاعة وواضحة، إذ لا شيء أسوأ من إعدام طفل بالفأس، بالمنشار، بالسيف أو بالنار».
وقد حصل ذلك اعتماداً على فتوى تلامذة عبد الله عزام «سنقضي عليهم بالكلام الحق… اننا لا نقلل من قيمة السلاح. فلا تستحق السلطة الفاسقة والكافرون الموت بالرصاص… لا بد من ذبح الخونة». وجاء هذا العنف الاستئصالي مفنداً ومبوَّبا. فالفظاعات ليست اندفاع غريزة من القتال، بل هي تدبير مثالي بأمر إلهي. يذكر الكاتب ماكداش في مقالة كتبها في صحيفة “المساء” الجزائرية ما يلي: «هناك جرى تلقينهم للاعتقاد بأن المقام المقبل لكل منهم هو الفردوس ـ كما صوره لهم عبد الله عزام ـ مترابط مباشرة مع القذارة والنتانة وطول لحية المجاهد. في هذا الفردوس الخاص جدا يكون التقرب من الله على قدر عدد «الكفرة» المذبوحين، خاصة على قدر الوجع والعذابات التي يقاسيها «أعداء الله» قبل ان يسلموا الروح… ان قتل نسل الكفار، خصوصاً الصغار، عمل لذيذ سيرجح كثيراً الكفة في الميزان الإلهي».
ضحايا هذا الجنون الديني المبني على تيولوجيا عوراء وفقه سافل وتأليه للإرهاب كبد الجزائر مئة ألف ضحية… حتى الآن، لم يعرف عدد الضحايا في العراق وسوريا… والعدَّاد اللبناني يتمرن على القفز بالأرقام إلى… يا إلهي، من يوقف هذا العدّاد اليوم قبل استحالته غداً؟
قيل: إذا دخلت السياسة الأدب أفسدته. فماذا يقال عن نتائج دخول الدين في السياسة. ما جاء أعلاه، وما سيأتي أدناه، دليل حسي على الخراب الذي يحدثه في النفوس، من عصبية وتعصب، وفي الواقع، من فرز اجتماعي ومذهبي، يودي حتماً، في أزمنة التأزم، وهي كثيرة ومتواترة، إلى عنف وإرهاب… الدين في السياسة، نفط حارق. التداوي بمراهم التكاذب المذهبي لا يجدي، عندما تعصف الأمراض السياسية في بنية المجتمع… إرهاب واستبداد الأنظمة السياسية وارهاب واستبداد الديكتاتوريين، لا تؤدي مقاومته مدنياً وقتالا، إلى فتنة، تفجر المجتمع وتمزق لحمته. هنا الصراع صحي، مهما عنف، الغالب سياسي والمغلوب سياسي. أما في حالة اندفاع الدين إلى السياسة وتحويله إلى آية وراية وسلاح وأصحاب طرق، فعندها، لا حول ولا قوة… والأدلة فاضحة. فالمعارك المندلعة اليوم، على امتداد المشرق، هي بين «أهل الإيمان» و«أهل الكفر»، بين سنة وشيعة. بين مؤمنين وروافض… وهي معارك، ترقى في بشاعاتها، إلى الماضي الظلامي في زمن محاكم التفتيش في الأندلس. وهذا نص يثبت فظاعة تدخل الدين في السياسة، وتصنيع «مؤمنين» يدافعون عن الله. ودين الله وأمة الله، بارتكاب الكبائر.
في كتاب «اللوح الأزرق» لجيلبرت سينويه المشهد التالي في طليطلة: أواخر الشهر الرابع من سنة 1487 م. «نحن المفتش العام والولاة ورجال الشرطة والفرسان والقضاة ووجهاء طليطلة، أبناء المسيح الحقيقيون الأوفياء المطيعون للكنيسة أمنا المقدسة، نقسم بالنصوص المقدسة التي بين أيدينا، ان نحفظ رسالة يسوع المسيح المقدسة وأن نعمل على حمايتها وأن نطارد المارقين وأن نطيح كل من نشك في هرطقته أو كفره… وإذا تقاعسنا عن ذلك فليحاسبنا حساباً عسيراً وليسلط علينا عقابه الشديد الذي يسلطه على الفاسدين الذين يكفرون عبثاً باسمه المقدس… إنهض أيها الرب ودافع عن قضيتك. ودفع باثنين إلى النار ليحرقا. ظل أحدهما يحتضر في صمت بينما أخذ الثاني يصرخ ويتوسل وينتفض فألقى بنفسه إلى الأرض شعلة بشرية مولولة. انقض عليه الجلادون وأعادوه إلى النار. ثم جيء بامرأة مسنة، فلم يلق بها في النار، لأنها اعترفت بما اقترفت وطلبت الرحمة، فاستجاب لها المكيِّف الرحيم وأسعفها بالموت خنقاً. فجحظت عيناها وبدا انها تريد ان تقول شيئاً، لكن الكلمات ظلت حبيسة في حلقها إلى الأبد».
ماذا كانت تريد أن تقول المرأة المسنة؟
لا براءة لدين ان دخل السياسة: المسيحية سياسياً، مرتكبة جرائم، بحق من يكفر أو يختلف عنها بالرأي. هذه المسيحية السياسية، تم تصنيعها وتعميمها على أجهزة المجتمع. وقادت بها حروبا صليبية، وفتنا دامت مئات الأعوام… اليهودية سياسياً، صارت حركة صهيونية، استولت على فلسطين واحتلت أرضها، ولا تزال. والإسلام سياسياً، كان وهو كائن راهن وسيكون مستقبلا وبالاً على الدين والله والناس والعقل والإنسانية.
في بلدان العرب، مصانع متعددة لتصنيع الإسلام السياسي. وها هو يفتك بالبلدان، من أفغانستان إلى لبنان.
لا يفيد الكلام عن إسلام سياسي معتدل. الاعتدال مؤقت، ويتناسب مع حالة المجتمع السلمية. وما ان يعتكر المزاج الاجتماعي سياسياً، حتى يعتكر الاعتدال، ويصير حاضنا شرعيا للإسلام الجهادي التكفيري.
من يوقف هذه المجزرة؟
لا أحد.
لذلك: «الموت ملتصق بنعال أحذيتنا» وأنفاسنا. نسير وكفننا تحت إبطنا. انتظاراً لذلك اللقاء المحتمل مع النصل القاطع المدعوم بالنص الديني القاطع.
لا نملك في هذه الأثناء، غير الأحزان على شهدائنا، أينما سقطوا، ولأي مذهب انتموا. ولا نعوِّل إلا على الصدفة الخطرة، كي نظل متمسكين بوهم الوطن وأوهام الأمة وأحلام الحرية وطيبة الإنسان، أقدس خلق الله، والذي يتمتع بكل الجلال.

السابق
جنيف والرؤى المتناقضة
التالي
مرحلة صعبة ودموية