مرحلة صعبة ودموية

لم يكن من باب المصادفة البَحتة أن يتزامن انعقاد مؤتمر “جنيف ـ 2” مع انطلاق جلسات المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. ففي الخلفية السياسية لِكلا الحدَثين الكبيرين مشروع هندسة الصورة المستقبلية للمنطقة.
لكنّ الواضح أيضاً أنّ المسار المنتظَر سيكون صعباً وشاقاً وطويلاً، حسب ما وصفه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بما معناه أنّ المنطقة عموماً وسوريا ومعها لبنان خصوصاً، ستكون أمام مراحل صعبة، وربما اكثر دموية من تلك التي سبقت.
فسوريا ستشهد مواجهات ميدانية تهدف الى تحقيق وقائع جديدة تفرض نفسها على طاولة المفاوضات ورَسم الصورة المستقبلية من زواياها المختلفة، أكانت جغرافية أم سياسية أم ديموغرافية.
وبعيداً من العبارات الديبلوماسية التي زيَّنت جلسة افتتاح مؤتمر “جنيف ـ 2″، فإنّ العواصم الكبرى تسعى، لا بل تُبارك، الضربة التي سيُوجّهها النظام الى المجموعات المتطرفة المتمركزة في معاقل القلمون الأخيرة، أي يبرود، وهي تراقب عن كثب تحضيرات الجيش النظامي السوري لاسترجاع مدينة حلب وما تبقّى من ريفها.
وتحت هذه الصورة يتمهَّل النظام السوري في إنهاء ضربته في القلمون طمعاً بدفع العواصم الكبرى او المجتمع الدولي لإعطاء بركته العلنية، اضافة الى إنضاج ظروف مطاردة هذه المجموعات في اتجاه جرود عرسال، وهو ما وجّه في اتّجاهه إشارات متعدّدة عندما قصف جوّاً هذه المناطق.
في هذا الوقت، تتناقَص أعداد هذه المجموعات داخل يبرود، حيث بلغ عدد المسلحين نحو 800 عنصر بعدما كان يَربو على الألفين منذ بضعة أشهر، ما يعني أنّ النظام السوري بات يراهن على الوقت لانتزاع مكاسب أكبر وبشروط أفضل.
أمّا لبنان، فإنّ التطوّرات المرتقبة في سوريا لا بدّ وأن تنعكس سلباً على استقراره الداخلي، خصوصاً أنّ الخلل في التوازن الداخلي نتيجة الحرب الدائرة في سوريا يجعله قابلاً للانفجار عند كلّ حدث.
لذلك، تتّجه الأمم المتحدة، مثلاً، الى التجاوب مع المطلب الاميركي القاضي بجَمع العدد الهائل للنازحين السوريين الى لبنان ضمن مخيّمات ستُقام على الاراضي السورية الملاصقة للحدود اللبنانية، منعاً لتكرار مأساة المخيمات الفلسطينية داخل لبنان. وجاء التحرك الاميركي بعد ضغط كبير ومتواصل تولّاه الفاتيكان مع وصول البابا فرنسيس الى سدّة البابوية.
وقد تكون الصورة معبّرة حيث سَهّلَ الانقسام السياسي اللبناني هذا الانفلاش ليصِل الى اكثر من مليون نازح، فيما بدا الفاتيكان واعياً لمخاطر ما يحدث أكثر من اللبنانيين أنفسهم.
ولأنّ المخاطر السورية على الأراضي اللبنانية لا تنحصر بهذا الجانب فقط، بل بالتنظيمات المسلمة المتطرفة التي أنشأت بُنى تحتية خاصّة بها وصلت إلى حدود القدرة على تجنيد أعداد من الانتحاريين اللبنانيين، ما يُهدِّد ركائز الدولة اللبنانية المهترئة أساساً، فإنّ القرار الدولي تجاوز للمرة الاولى منذ عقود طويلة قرار حظر السلاح والتجهيز عن الجيش اللبناني، حيث اتُخذ قرار كبير بإعداده تمهيداً لإيلائه مهمّات صعبة في مرحلة ليست ببعيدة. ومن هنا جاءت المبادرة المالية السعودية.
وحسب المطلعين، فإنّ المسؤولين العسكريين الكبار في واشنطن اتخذوا قراراً سريعاً بإزالة العقبات من أمام تسليح الجيش، ذلك أنّ استمرار واقع الهريان اللبناني الداخلي على هذا النحو سيؤدي سريعاً إلى تفكّك أوصال الدولة اللبنانية وعودة البؤر الامنية المرعبة، التي تشكل في نهاية الامر “حلماً” للتنظيمات الدائرة في فلك “القاعدة” وفكرها.
لا بل تكشف بعض المصادر الاميركية المطّلعة أنّ واشنطن ستعمد الى تجهيز الجيش اللبناني بسرب من الطائرات الحربية الحديثة والقادرة على المشاركة في القصف الجوي، والتي تعتبر مثالية للمساندة في حرب الشوارع وحرب العصابات، ولكنها بطيئة السرعة نسبياً (لا تتجاوز سرعتها 400 كلم في الساعة)، بحيث يُخفّف ذلك من الاعتراض الاسرائيلي. وستكون أمام الجيش اللبناني مهمّة إعادة ضبط الساحة اللبنانية، أو بمعنى أوضح إزالة “الاخطاء” الناتجة من الانقسام السياسي الداخلي، والتي أدّت الى ضرب الاستقرار.
وعلى عكس ما يعتقد كثيرون، ستكون هذه المواجهة طويلة ومُكلفة ودموية، بحيث تأمل العواصم الغربية في أن ينجح الجيش اللبناني في نهايتها بانتزاع القرار الامني الداخلي وحَصره بيده وحده، وإيجاد اطار تنظيمي للمقاومة في الجنوب فقط في إطار التعاون والتنسيق معه. لذلك، قد تأخذ المحكمة الدولية وقتها، ولو أنّها تسير في موازاة المؤتمرات السورية والحركة الديبلوماسية الناشطة في المنطقة.

ومن أجل ذلك، شهدنا إعادة “دَوزَنة” التناقض السعودي – الايراني في لبنان في اتجاه تأليف حكومة وحدة وطنية، بعدما كان الخطاب السياسي مناقضاً لذلك. والهدف تهيئة الأجواء الداخلية لبدء الحرب على الارهاب التي سيتولّاها الجيش اللبناني، وستكون صعبة وقاسية ومؤلمة.

ولذلك أيضاً، تبعث هذه المجموعات رسائل اعتراضية، ميدانياً في طرابلس، أو حتى إرهابياً عبر التفجيرات الانتحارية، وهي قد تبتكر رسائل إرهابية أشد وَقعاً ربما.

السابق
يوميات «الرعب المدنّس» من الجزائر إلى لبنان الدين عندما ينتهك السياسة
التالي
قطار العيادة الدولية