أميركا وإيران: الصفقة الكبرى تتأرجح بين 3 سيناريوهات

أدق وصف للصفقة النووية المؤقتة بين طهران وواشنطن التي دخلت حيز التنفيذ اليوم، قد يكون ذلك الذي جاء على لسان مجلة إيكونوميست”.

قالت: “هذه الصفقة مقامرة كبرى مع إيران لا أحد يعرف ما إذا كانت ستنجح لا. لكن من الواضح سلفاً أن المخاطر صغيرة، والجوائز كبيرة، والبديل (عن الدبلوماسية) بالغ السوء”. (1)

حسنا. ربما كان هذا التوصيف، الذي يمثّل وجهة نظر الأطراف الغربية المتحمسة لخوض غمار “المقامرة” مع إيران حتى الثمالة، صحيح. لكن، ما العوامل التي ستكون نافذة أو حتى حاسمة في تقرير مصير هذه المقامرة، نجاحاً أو فشلا؟

هنا تبرز على السطح ثلاثة سيناريوهات تبدو حتى الآن متساوية القوة مع بعضها البعض.

السيناريو الأول يتوقع أن تتوصل إيران والولايات المتحدة خلال الشهور الستة أو الإثني عشر المقبلة إلى “الصفقة الكبرى” التي طال الحديث عنها طيلة السنوات الخمس الأخيرة، والتي من شأنها قلب الأمور رأساً على عقب في الشرق الأوسط الكبير، كما في العالم.

 

السيناريو الثاني يرى أن الفشل سيكون من نصيب هذه المغامرة- المقامرة، بسبب كثرة العوامل المحلية والإقليمية والدولية التي تقف حجر عثرة في طريقها.

 

والسيناريو الثالث لايستبعد أن تصل محصلة المفاوضات بين إيران إلى منزلة بين المنزلتين، أي لايتم الوصول إلى الصفقة الكبرى، لكن يجري تمديد الصفقات الصغيرة إلى أجل غير مسمى.

 

أي السيناريوهات الأقرب إلى التحقق؟

 

سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. قبل ذلك، فلنستعرض معاً مضامين ومعطيات كلٍ من هذه السيناريوهات.

 

الصفقة آتية

 

ينطلق أنصار السيناريو الأول في نزعتهم التفاؤلية من تحليل العوامل الذاتية والموضوعية التي دفعت الولايات المتحدة وإيران إلى كسر 30 سنة من جدار العداوة في ما بينهما، والتي جعلت الأولى “شيطاناً أكبر” والثانية “أحد أضلاع محور الشر”.

 

أهم العوامل الذاتية في الولايات المتحدة، كانت إعادة النظر الاستراتيجية الشاملة التي قامت بها إدارة الرئيس أوباما في توجهات السياسة الخارجية الأميركية. في المحافل الدولية، عُرفت إعادة التقييم هذه بـ”الاستدارة” ( Pivot) شرقاً نحو آسيا- حوض الباسيفيك ونحو إصلاح الداخل الأميركي، ويالتالي تقليص الاعباء والالتزامات الأميركية في الشرق الأوسط وأوروبا.

 

أما في الداخل الأميركي، فكان يجري الحديث أكثر عن تخلي إدارة أوباما عن “مبدأ كارتر” الذي صاغه (كما هو معروف) الرئيس الأسبق جيمي كارتر العام 1980، والذي رمى فيها بالثقل العسكري الأميركي في منطقة الخليج، غداة “خسارة” الولايات المتحدة لإيران بعد ثورتها العام 1979 والغزو السوفييتي لأفغانستان.

 

وهذا عنى بالنسبة إلى أوباما رفض الانجرار إلى أي حروب أخرى في منطقة الشرق الأوسط الكبير، من سوريا إلى إفريقيا الشمالية، واستبدال “مبدأ كارتر” الذي وضع الأمن الخليجي مباشرة في أيدي القوات الأميركية عبر سياسة الاحتواء المزدوج آنذاك، بـ”مبدأ أوباما” الداعي إلى أن تلعب الولايات المتحدة دور”المدوزن” لموازين القوى في المنطقة، من خلال استراتيجية الإشراف بحراً من بعيد على التطورات فيها، تماماً كما فعلت القوة الامبراطورية البحرية البريطانية طيلة ثلاثة قرون.

 

 سوزان رايس، مستشارة الأمن القومي الأميركي، نشرت الشهر الماضي تقربر فريقها حول “إعادة النظر في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط”، (2) بوصفه الاستراتيجية  الأميركية الجديدة، والذي استند إلى منطلق يتيم: “النأي بالنفس” عن معظم قضايا الشرق الأوسط، وتقليص الالتزامات الأميركية في المنطقة، وتحويل التركيز الأميركي من حوض البحر المتوسط إلى حوض المحيط الهاديء.

 

وقد أضفى هذا التقرير الطابع الرسمي على سياسة الانكفاء أو الانحسار Retrenchement)) الأميركي في الشرق الأوسط، التي حددها الرئيس أوباما في خطابه الشهر الماضي أمام الأمم المتحدة، والتي شدد فيها على أن الأولويات الأميركية الجديدة هي التوصل إلى تسوية دبلوماسية للملف النووي الإيراني، وحل المسألة الفلسطينية- الإسرائيلية، ورفض استخدام القوة العسكرية إلا لمنع عرقلة تدفق النفط، ومكافحة الإرهاب، وانتشار أسلحة الدمار الشامل.

 

أما قضايا الحرية، التي تبناها أوباما قبل سنتين في اسطنبول والقاهرة معلناً في أيار/مايو 2011 بأن أميركا “ستدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان والأسواق الحرة بكل امكانتها الدبلوماسية والاقتصادية والاستراتيجية”، فقد حلت مكانها الآن النزعة الواقعية والبراغماتية و”رفض أن يبتلع الشرق الأوسط كل أجندة السياسة الخارجية الأميركية”، على حد تعبير رايس التي أضافت: “هناك الآن عالم كامل (في آسيا)، ونحن لدينا مصالح وفرص في ذلك العالم الكامل”.

 

هذا التوجه الأميركي الجديد تقاطع مع تقارير أميركية وغربية عدة، كانت تضفي على هذا التوجه الأميركي نحو الانكفاء مضامين أخطر بكثير: مضامين حضارية كبرى إذا جاز التعبير.

 

فقد كتبت فايننشال تايمز أن الغرب كله” بدأ يفقد إيمانه بمستقبله، بسبب تدهور مواقعه النسبية اقتصادياً واستراتيجياً في النظام العالمي” (3). وأضافت الأيكونومسيت إلى ذلك قولها أن “المشاكل الكبرى التي يعاني منها الغرب بسبب الشلل الذي سببته حروب العراق وأفغانستان، والتضعضع الاقتصادي في أوروبا وأميركا والسياسات الحزبية ضيقة الأفق فيهما، قد جعله في حالة ضعف شديد يترافق مع انحسار نفوذه”.(4) هذا في حين كان تقرير لأجهزة الاستخبارات الاميركية يشدد على أن “حقبة صعود الباكس أميركانا (السلام الأميركي) في العالم التي بدأت العام 1945 توشك على الأفول سريعاً، في مجالات الحجم الاقتصادي، والتكنولوجيا، والاتفاق العسكري”، وأن “القوة الآسيوية ستتفوق على أوروبا وأميركا الشمالية معاً قبل العام 2030”. (5)

 

أوردنا هذه التفاصيل لمجرد الإشارة إلى الابعاد الاستراتيجية – التاريخية التي ربما تُملي على الولايات المتحدة سياساتها الراهنة إزاء إيران. هذا بالطبع من دون الوصول إلى الاستنتاجات الخطيرة التي خرج بها إيمانويل تود في كتابه “مابعد الامبراطورية” (6) والذي توقّع فيه انهياراً قريباً للولايات المتحدة، كما حدث للاتحاد السوفييتي. فالقدرات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية الأميركية لاتزال لها، وحتى إشعار آخر، اليد العليا في العالم، خاصة بعد اكتشاف النفط والغاز الصخريين، وتطوير صناعة ” الطباعة ثلاثية الأبعاد”، وإعادة التصنيع الشاملة ووقف تصدير الوظائف إلى الخارج.

 

لكن، مع ذلك، هذا لاينفي الحقيقة بأن الولايات المتحدة بدأت تعيد بالفعل التفكير بنفسها وموقعها وقدراتها كزعيمة عالمية. وهي تجد نفسها مدفوعة، في ضوء إعادة التقييم هذه، إلى تقنين وجودها في الشرق الأوسط والعالم. ومن هنا جدّية إدارة أوباما في البحث عن تسوية شاملة مع إيران. إذ أن مثل هذه التسوية ستمكنها، كما قال هنري كيسينجر وجورج شولتز، في “وول ستريت جورنال”  من “تطوير سياسة شرق أوسطية متأقلمة مع الظروف الجديدة”.( 7)

 

تجرّع السم

 

الجانب الأميركي يبدو إذا مستعدا، حتى الآن على الأقل، لإبرام صفقة كبرى مع إيران. لكن ماذا عن إيران نفسها؟

 

في 8 آب/أغسطس 1988 أعلن أية الله الخميني أنه “يتجرع السم من خلال قبوله وقف الحرب مع العراق”.

 

وفي 16 أيلول/سبتمبر 2013، أي بعد 25 سنة، بدا خليفة الخميني أيه الله خامنئي وكأنه يتجرع السم هو الآخر، عبر إبداء استعداد إيران لممارسة “الليونة البطولية” في التعامل مع الغرب، بعد عقدين من “ِشيطنة أميركا” واعتبار أي ليونة في التعاطي معها بمثابة “خيانة إديولوجية”.

 

الخميني قرر “تجرُّع سم” وقف الحرب لأن أدرك أنه عاجز عن حسم الحرب لمصلحته، ولأن نظامه بات مستنزفاً اقتصادياً وعرضة إلى الخطر. وخامنئي قرر هو الآخر “تجرع السم” لأن مقاربته القائمة على المجابهة مع الغرب، جعلت الاقتصاد الإيراني يتراقص على حافة الانهيار.

 

فالضائقة الاقتصادية الكبرى التي تمر بها إيران هذه الأيام، أدت إلى خفض قيمة الريال الإيراني بأكثر من 60 في المئة خلال الأشهر الستة الماضية، ورفعت معدلات البطالة بين الشباب إلى أكثر من 40 في المئة، هذا في حين كان التضخم يقفز إلى مستويات شاهقة. وهذا على مايبدو، مادفع مرشد الثورة الإيرانية إلى لجم الحرس الثوري الإيراني (مؤقتا) عن التدخل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة (كما فعل العام 2009)، وإلى الافصاح علناً للمرة الأولى عن استعداده لابداء المرونة في المفاوضات النووية مع إيران.

 

سبب هذا الانقلاب الخامئني سببان:

 

 الأول هو العقوبات الاقتصادية الغربية والدولية القاسية على إيران، التي جعلت الرئيس حسن روحاني يعترف في نيويورك أمس بأنها (العقوبات) ألحقت أضراراً فادحة ليس فقط بالاقتصاد الإيراني بل أيضاً بالمواطنين الإيرانيين العاديين الذين باتوا، على حد قوله، “يفتقدون إلى الطعام والدواء”.

 

بيد أن السبب الثاني قد يكون أخطر: الكلفة الباهظة التي تتكبدها إيران في سباق التسلح والصراع على النفوذ الإقليمي مع الولايات المتحدة وبعض الدول الإقليمية في الشرق الأوسط، والتي قد تكون أكثر خطورة من العقوبات الدولية، والتي جعلتها (كما الاتحاد السوفييتي السابق) تترنح على شفير الانهيار الاقتصادي- الاجتماعي.

 

وهنا حدث التقاطع بين الانحسار الأميركي وبين التآكل الداخلي الإيراني لتولد منه الاستعدادات لدى كلا الطرفين لإبرام الصفقة الكبرى المنشودة. وهذا ماسيجعل السيناريو الأول، أي التسوية، قوياً وقابلاً للتطبيق، برأي أنصاره.

 

السيناريو الثاني: الفشل

 

ماذا الآن عن السيناريو الثاني، الذي يتوقع فشل الصفقة الكبرى؟

 

أنصاره يوردون ثلاثة عوامل رئيسة ستؤدي إلى انهيار المسعى الراهن.

 

الأول، هو احتمال حدوث “ثورة” في الولايات المتحدة على سياسة إدارة أوباما، بسبب ماتعتبره العديد من القوى المحافظة وحتى الليبرالية العالمية الأميركية تهاوناً من قبلها في التصدي للمحور الروسي – الصيني- الإيراني الناشيء في السياسات الدولية.

 

أبرز ممثلي هذا التيار هو وولتر رسل ميد، الذي نشر مؤخراً (8) دراسة بعنوان “نهاية نهاية التاريخ”، أبرز فيها النقاط التالية:

 

– في وقت ما من العام 2013، وصلنا إلى مرحلة جديدة في تاريخ العالم. فقد سعى تحالف من قوى كبرى إلى قلب التسوية الأوراسية لفترة مابعد الحرب الباردة التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها بعد العام 1990. وهذا التحالف يحقق الآن تقدماً أساساً بسبب تجاهل إدارة أوباما لمخاطره. اسم هذا التحالف “القوى المركزية” روسيا والصين وإيران، التي تكره وتخشى نفسها كما تكره وتخشى النظام الجيو- سياسي الراهن.

 

– هذا التطور لم يصل بعد إلى مرحلة ماقبل الحرب، لأن القوى المركزية تعرف أنها لاتستطيع تحدي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان، لكنها تنشط لتفريغ صرح القوة الأميركية من زخمه. والصفقة مع إيران تتم في هذا السياق، إذ هي تقايض الوعد الإيراني بإنهاء البرنامج النووي برضوخ أميركا لهيمنة طهران على الهلال الخصيب وحتى ربما على الخليج.

 

– الإدارة الأميركية الحالية، أو أي إدارة مقبلة، سيكون عليها مواجهة هذا الحلف الجديد في قارة أوراسيا، وسيتحتم عليها للمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة أن تبلور استراتيجية أوراسية جديدة تدمج فيها السياسات في أوروبا والشرق الأوسط وجنوب آسيا وشرق آسيا في هيكلة واحدة شاملة.

 

ميد رسل يعني، بكلمات أخرى، أنه يتعيّن على الولايات المتحدة رفض التسوية مع إيران، لكونها جزءاً من التحالف الدولي الذي يسعى إلى تقويض الزعامة العالمية. وهذا ماتراه أيضاً قطاعات واسعة في الكونغرس الأميركي، وإسرائيل، ودول شرق أوسطية ودولية عدة. وهو موقف يتقاطع مع رأي القوى المحافظة و”فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني، الذي يعتبر الرئيس روحاني بمثابة “غورباتشوف إيران” الذي سيقوّض الثورة الإسلامية ويسمح للولايات المتحدة بتغيير النظام الإيراني سلماً وبالتدريج.

 

كل هذه الأطراف ستعمل حتماً على إجهاض الاتفاق ومنعه من الولادة.

 

السيناريو الثالث

 

يبقى السيناريو الأخير، وهو احتمال تحوّل المؤقت إلى دائم في المفاوضات الإيرانية- الغربية. أي تمديد فترة الستة أشهر المحددة للتوصل إلى اتفاق دائم إلى فترات ستة أشهر أخرى بشكل غير محدد زمنيا، على نمط الصفقات الإيرانية- الأميركية “الصغيرة” السابقة في أفغانستان والعراق وإيران- غيت.

 

أما الصفقة الكبرى، فيجب أن تنتظر تبلور النظام الدولي الجديد، وما إذا كانت الولايات المتحدة (خاصة في عهد إدارة جديدة تحل مكان إدارة أوباما)، ستتوصل إلى تسويات واتفاقات مع روسيا والصين، أم أنها ستسعى، كما يدعو رسل، إلى استراتيجية أوراسية لمجابهتها استناداّ إلى مفهوم موازين القوى.

 

مفاجآت؟

نعود الآن إلى سؤالنا الأولي: أي السيناريوهات الأقرب إلى التحقق؟

الأرجح أن اليد العليا ستكون للسيناريو الأخير لسببين: الأول، أن الولايات المتحدة ستكون في حاجة إلى وقت كي تختمر فيها التوجهات الجديدة في السياسة الخارجية. وهذا سيجعل من الصعب عليها التوصل إلى صفقة كبرى مع إيران قبل حسم مسألة العلاقة مع الصين وروسيا. وبالتالي من الأسهل التوصل إلى اتفاقات مؤقتة طيلة ماتبقى من عهد أوباما.

والثاني، أن الداخل الإيراني في حاجة هو أيضاً لأن يحسم ماإذا كان بمقدوره قبول الشروط الأميركية لإعادة دمجه (كما حدث مع الصين قبله) في النظام العالمي، والتي تتضمن قبوله بالتركيز على التطوير الاقتصادي الداخلي والتخلي عن طموحاته الإقليمية.

وهذا بالطبع من دون أن نسقط من الاعتبار احتمال وقوع “حوادث” أمنية كبرى يقوم بها المعترضون على الصفقات من كل الأطراف لجعل السيناريو الثاني (الفشل) هو الخيار الأقرب إلى التحقق.

 

السابق
قطع طريق المشرفية الغبيري بالاطارات المشتعلة احتجاجا على تفجير حارة حريك
التالي
السفارة الاميركية تدين التفجير الإرهابي في منطقة حارة حريك