قرايا وسرايا

إما أن محامي الدفاع لم يفهموا جوهر البيان الاتهامي الذي تلته هيئة الادعاء ، أو أنهم فهموه جيدا ولم يجدوا ما يأخذونه على بنائه المحكم غير خلوه من تحديد دوافع الجريمة . كأنهم في ذلك يطلبون من المحكمة أن تنزلق إلى السياسة ، أي إلى حيث سعى النص الاتهامي أن يتفاداه .

ساورنا الظن لأولة وهلة أن المحامين في لاهاي سيستخدمون لغة أخرى غير تلك التي أشاعها سياسيون صغار وكبار من لبنان منذ تسع سنوات حتى الآن . أو ربما منينا النفس في أن يكون المحامون قدوة في الترويج للغة تنأى بنفسها عن السفاسف وتكون درسا في القانون لسياسيي الممانعة وإعلامييهم يبين لهم الفارق الكبير بين كلام القرايا، أي القرى، وكلام السرايا، أي المحكمة. (من مثل شعبي لبناني).

نجح البيان في توجيه اتهام مركب إلى مجموعة من عشرات الأشخاص ، تعرّف على بعضهم بالاسم ، فيما ظلت أسماء آخرين مجهولة . التهمة الأولى أنهم شكلوا عصابة خارجة على القانون ، نظمت عملها من اللحظة الأولى بشراء أجهزة خلوية بأسماء مستعارة ، وبوثائق مزورة ، وتولى أحدهم تشريج كل البطاقات الموزعة على أفراد العصابة التي يشير الترابط الهرمي بين أعضائها إلى أنها منتظمة في هيكل عسكري أو أمني أو مخابراتي .

التهمة الثانية أن هذه العصابة هي التي اشترت سيارة الميتسوبيتشي ، وتحددت التهمة بالتواريخ والأرقام وأنواع العملة التي دفعت للبائع ،وهي التي استخدمتها في اغتيال الحريري ، وتأكد ذلك من أرقام الشاسي والموتور ومن الطريق التي سلكتها من اليابان إلى معرض السيارات في طرابلس ثم إلى مكان الانفجار ، ومن حركة حاملي الهواتف الموازية لحركة موكب الحريري .

التهمة الثالثة أن هذه العصابة هي التي استمرت في تعقب الحريري ، قبل أشهر من الجريمة ، في كل مكان كان يقيم فيه. ليس ما يلفت النظر لو اقتصر الأمر على مراقبته في دارته أو في المجلس النيابي. لكن ما فضح العصابة هو ملاحقتهم إياه في أماكن ، لا مبرر لوجودهم فيها غير النية الجرمية، في دارته في فقرا ، أو خلال زياراته إلى الضاحية الجنوبية أو لتقديم واجب اجتماعي . الأشخاص ذاتهم وأرقام الهاتف إياها .

الرابعة هي أن العصابة ذاتها هي التي لفقت حكاية ” أبو عدس ” لتضليل التحقيق .

قوة البيان الاتهامي تكمن في حصر مهمته بالجريمة وبإثبات الهوية الشخصية للمنفذين ، لا هويتهم السياسية . ربما كان ذلك أبلغ رد يمكن أن تقدمه المحكمة على من وجه إليها تهمة التسييس. محامو الدفاع حاولوا أن يوقعوا المحكمة في ما عملت هي على تجنبه من خلال عملها الحرفي المتقن .

كما تكمن قوته باستخدام لغة العلم وتقنياته . ولربما كانت تدخر المزيد من الأدلة الدامغة الأخرى كالصور الموثقة أو التسجيلات الصوتية . ما يملي على وكلاء الدفاع قراءة النص الاتهامي بعين أخرى غير تلك التي روجت لها قوى الممانعة ووسائل إعلامها ، كالكلام عن شهود الزور أو عن ضعف الدليل المتعلق بالاتصالات.

الفارق بين كلام القرايا وكلام السرايا ليس فارقا لغويا ، مع أن فيه من الفوارق ما هو موجود بين لغة “التشبيح ” أو”الطهمزة ” أو “اللتلتة” أو ” الجعدنة” أو الهرطقة ، وبين لغة القانون والعلم . هو نفسه الفارق بين اللغة في بيان الادعاء الصادر عن المحكمة الدولية ، وبين لغة البيان الصادر عن ” هيئة التنسيق للقاء الأحزاب في لبنان”، والمنشور في الصحف بتاريخ 11 كانون الأول 2013، والذي ينص على ” تحميل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي مسؤولية هدر المال العام ، بحجة تسديد لبنان حصته من تمويل المحكمة … خلافا للأصول والأعراف …” وعلى عدم شرعية المحكمة وعدم قانونيتها ليس لكونها محكمة مسيسة فحسب بل لأن تأسيسها يفتقد أصلا وأساسا للمشروعية القانونية والدستورية في لبنان بما يجعلها محكمة غير شرعية ومطعون بإجراءاتها وبقراراتها … ”

ربما صار من الضروري توحيد اللغة ومصطلحاتها المتعلقة ” بالأصول والأعراف القانونية “، وتلك المتعلقة بالشرعية والمشروعية والدستور والمحاكم والقضاء ، ولا سيما بعد أن دمرت تقاليد الحرب الأهلية المستديمة لغة الحياة السياسية السليمة ونحتت مفردات واستحدثت عبارات وابتدعت خطابات جديدة غير مألوفة في قواميس السياسة والقوانين والدساتير .

ربما آن الأوان لئلا يحشر أحد نفسه في غير لغة اختصاصه: القضاء المنزه عن السياسة لمحاكمة المجرمين والدين المنزه عن السياسة لتطويب القديسين .

السابق
توافق سعودي – إيراني في لبنان برعاية أميركية
التالي
المحكمة مدخل للمحاسبة