سعد الحريري: عودة إلى الدولة..

اختار سعد الحريري لحظة فاصلة ليغلّب، في السياسة، مصلحة السلم الأهلي على الثأر الشخصي والانتقام السياسي… ليعيد رسم صورته الجديدة، كمسؤول، وليغادر خطاب الثأر متقدماً إلى صورة رجل الدولة في وطن جريح.
وقف تحت المطر، أمام المبنى المعار للمحكمة الدولية، ليغلق صفحة متفجرة بالأغراض والأحقاد والمصالح والمطامح المتناقضة، بعيداً عن “الحقيقة” التي غدت استثماراً مجزياً وعن “الشهيد الكبير” الذي صار حمل صورته أقصر طريق إلى النيابة والوزارة والثروة والجاه العريض وربما ادّعاء الحق بالاحتساب بين “الورثة”.
من قلب المحكمة الدولية في لاهاي البعيدة كثيراً عن بيروت والتي تعتمد اتهاماً سياسياً موصوفاً لإدانة جنائية مقصودة لتنظيم سياسي هو الأقوى في لبنان، بأفظع جريمة شهدتها الساحة اللبنانية المفتوحة على الصراعات السياسية كافة، المحلية والعربية والدولية، الطائفية والمذهبية والعنصرية…
من قلب المحكمة الدولية في لاهاي التي حولتها ظروف تشكيلها والملابسات الفاضحة التي رافقت مسار التحقيقات التي رفعت إليها، والاتهامات التي ينقصها الدليل الجرمي القاطع والتي اعتمدت لإدانة أشخاص بطائفتهم وليس بأدوارهم العملية، وحزبيين فاعلين من دون أن يشمل الاتهام الذي ينقصه الدليل القاطع حزبهم السياسي…
من قلب المحكمة الدولية في لاهاي، ومن خارج سياق أكوام الأوراق التي تتراكم أمام قضاتها الآتين من عالم آخر، والذين وجدوا أن عليهم أن يتعاملوا مع النتائج أكثر مما يتعاملون مع المعطيات الفعلية على أرض الواقع، قبل الجريمة المهولة وبمعزل عنها، ولا يهتمون بما يكفي للتداعيات المدمرة التي نجمت عنها…
من قلب المحكمة الدولية في لاهاي، التي يبشر المطر المتساقط عليها بموسم الثلج الآتي، وبمعزل عما توصل إليه هؤلاء القضاة الأغراب الذين يقرأون روايات سمعها فنقلها من لا يعرف البلاد وأهلها وطبيعة الصراع السياسي في ما بين أحزابهم والتيارات سياسية الشعار طائفية المنطلق مذهبية الغرض في صراع ظاهره محلي وباطنه إقليمي ونتائجه دولية بامتياز…
من قلب المحكمة الدولية في لاهاي، وفي ظل جو مثلج، وانطلاقاً من تحقيقات رافقتها الشكوك والريب، موفرة الفرصة لمستثمري الدم المراق ظلماً وغيلة لأن يبدلوا في قواعد اللعبة السياسية في الداخل كما في الإقليم… لا سيما وأن “الضحية” كانت ـ بدورها وتأثيرها ـ متعددة الأبعاد، تمتد من الداخل إلى دواخل دول عديدة في الجوار القريب، دمشق أولها وأشدها تأثراً والرياض أوثقها صلة وأكثرها اهتماماً، ثم الكويت والدوحة وأبو ظبي وعمان، وفي ما بعد سائر الجوار العربي، القاهرة والرباط وصولاً إلى عواصم القرار في أربع رياح الأرض، غرباً وغرب الغرب باريس وبرلين ولندن وصولاً إلى واشنطن، وشرقاً وشرق الشرق، طهران وإسلام أباد وموسكو وصولاً إلى بكين.
من قلب المحكمة الدولية في لاهاي الباردة إلى بيروت ـ العاصمة الأميرة، المنتدى والمصرف والملهى والمقهى وجريدة الصباح -، التي جعلها الحريق المدمر مدناً عدة، يفصلها عن ضاحيتها النوارة خندق من بغضاء واتهامات متبادلة بالقتل، فإلى صيدا التي انبت التعصب المصنوع والوافد من خارج بعيد ما يسعى ليفصلها عن جوارها الحميم القريب النسيب الذي يكاد يكون داخلاً، هي قلبه وهو مدى حيويتها والهواء الذي تتنفسه، تجارة وسياحة واصطيافاً، زراعة وصناعة ومطاعم ودور لهو، هي روحه التي تتمدد عبره نحو فلسطين بالشهداء الذين يراد تفريق بعضهم عن البعض الآخر بالفرز والضم والمذهبية القاتلة.
… ناهيك بأن البقاع المنسي صار ثلاثاً أو أربع “بقاعات” وأن طرابلس صارت جبهتين مع احتمال التوسع شمالاً وشرقاً وجنوباً، وأن عكار صارت عكاريْن، وأن الضنية تكاد تغرق في المجهول وأن المنية تتمزق بين جغرافيتها وتاريخها وعائلاتها التي تفقد هويتها إذا ما قص جناحاها الطرابلسي والعكاري، وأن زغرتا صارت كأنما في قارة أخرى يفصلها عن بشري، التي غدت نائية جداً، جدار من أسوار التعصب والعصبيات العمياء والمتسببة في تقطيع روابط القربى بالمصاهرة أو بالمصالح أو حتى بفكر جبران خليل جبران.
في قلب المحكمة الدولية في لاهاي سمع سعد الحريري ما جعله ينتبه إلى أن “القضية” في بيروت، وأن “الحل” في بيروت، وأن البراءة أو العقاب في بيروت، وأن الجو المحتقن مذهبياً والمشحون بالبغضاء طائفياً والمفتوح للاستثمار سياسياً، محلياً وعربياً ودولياً، ليس هو الطريق للوصول إلى العدالة… بل إنه الطريق إلى الفتنة التي تلغي السياسة وتدمر ما تبقى من الدولة ومؤسساتها المتهالكة أصلا، وتنسف اليقين حول حيثيات “القضية” التي عنوانها رفيق الحريري وموضوعها لبنان وشعبه المهدد بأن يفقد ـ مع وحدته ـ قدراته التي كان “الرئيس الشهيد” يعتمد عليها لتحقيق طموحه إلى غد أفضل لجيل نجله سعد الحريري ثم لجيل أحفاده وأحفاد مجايليه من اللبنانيين في مختلف أنحاء هذا الوطن الصغير.
من قلب تلك المحكمة الدولية التي كان لبنان فيها الضحية وليس الجاني، اختار سعد الحريري أن يطل في صورة ابن الشهيد قبل ولي الدم، والمسؤول عن الغد اللبناني تاركاً الماضي للتاريخ، عائداً إلى أبيه الوحدوي بعيداً عن الذين حاولوا الإتجار بدمه ورفاقه من اجل تكريس الانفصال الذي يترجم بحرب أهلية مفتوحة على النار التي تحرق سوريا وتهدد العراق وما خلفه… خصوصاً وأن الفتنة تلتهم مشعليها في كثير من الأحيان.
سعد الحريري: أهلاً بك رجل دولة في وطن يتناقص فيه أعداد الرجال الرجال، ومتقدماً لإكمال ما بدأه رفيق الحريري وليس لنقض مسيرته والمساعدة على تهديم ما كان باشره في مجال العمران والبناء، ترسيخاً للوحدة التي بها يكون لبنان دولة وإلا صار جحيماً كالذي كان البعض يريد من المحكمة الدولية أن تفتح أبوابه لنار تأكل الأهل والجيران الأقربين.
وليست جريمة الاغتيال إلا المدخل إلى النفق الدموي لاغي الدول والأوطان.. والمواطنين!

السابق
لا اتفاق على الأسماء والحقائب
التالي
مسيحيو 14 آذار يُلدغون من الحريري… مجدداً!