المحكمة مدخل للمحاسبة

في لبنان، هناك من ثبّت القتل والإقصاء الجسدي سبيلا للحكم وللتسيد في الحياة العامة. فالاغتيالات في هذا البلد، تعد من النسب الأعلى في العالم قياسا بحجمه وتاريخه القصير.

منذ تأسيس لبنان، وعبر كل المحطات التي مر بها اللبنانيون، جرى تآلف قسري مع قتلة نشروا ثقافة الموت سبيلا للتصدر، فباتوا يُقصون ضحاياهم بأي وسيلة، أكانت تفجيرا أم قتلا أم خطفا أبديا. وجرى تثبيت معادلة تمنح القتلة موقعا في الحياة العامة والسياسية، وفي المقابل ما على الضحية سوى الموت والانمحاء بصمت. وإن نجا البعض لسبب ما، فكل ما عليه فعله هو القبول وشكر الله على البقاء على قيد الحياة، تحت السقف الذي خطه القتلة له.

جرى اعتماد ذلك تحت شعار أن قتل الخصم هو ذروة الوطنية.

هذه المعادلة اهتزت في العمق، مع المشهدية الواقعية التي تابعها اللبنانيون والعالم، قبل أيام، عبر النقل المباشر لجلسات المحكمة الخاصة بلبنان التي بدأت جلساتها ومرافعاتها في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

قدم الادعاء عرضا مباشرا سمعيا بصريا روائيا للأحداث التي أوصلتنا إلى جريمة 14 فبراير (شباط) 2005، مفندا بأدق التفاصيل، كيفية تورط خمسة من عناصر حزب الله في مراقبة الحريري والتحضير للتفجير. شاهدنا مسار المتهمين لأشهر سبقت الجريمة، ولخريطة تواصلهم وتحركهم، عبر داتا معلومات جرى جمعها والتوثق منها، ووضعها في سياق عرض شامل، أتيح للرأي العام مشاهدته بالكامل.

العرض الذي قدمه الادعاء أشبه بعمل صحافي استقصائي، لكن ألا يتقاطع الاستقصاء في العملين الصحافي والقضائي؟

في المقابل، وكما يمكن أن تحرف الصحافة عن دورها، يمكن للقضاء أيضا، أن يتلاعب بمهمته الأولى وهي العدل، وهذا ما جرى في كل جرائم الاغتيال والقتل التي ضربت لبنان، إذ كان القضاء عاجزا ومكبلا.

لكن هذه المحكمة الخاصة بلبنان، هي أول مسار قضائي، جدي واحترافي، لجريمة إرهابية موصوفة. فلم يسبق أن تابع اللبنانيون والعرب محاكمات فيها هذا القدر من المهنية بهذا الشكل، والأدق أنه لم يسبق للرأي العام عندنا، أن تابع محاكمات احترافية فعلية أصلا، ففكرة العدالة بمعناها القضائي الإجرائي، لا بالمعنى الروحاني، ليست فكرة رائجة في أنظمتنا.

أتت المحكمة لتكسر تلك الثابتة. فبهدوء تام، وبلغة محبوكة بصريا ومعلوماتيا ودراميا، هناك من روى لنا حكايتنا في هذا البلد، بل من وثق حكايتنا في المنطقة بأسرها. حين تابعت تفاصيل المحكمة، أدركت لماذا تعرضت لهذا الكم الهائل من الحملات الإعلامية والسياسية على امتداد الأعوام التسعة الماضية. طبعا، استكملت الحملات مستعيدة اللغة «الممانعجية» نفسها التي تردد أن المحكمة سياسية، وأنها لم تقدم جديدا، بل وأُدخل عنصر جديد هو أن المحاكمة كانت مملة.

قد تكون العدالة طويلة ورتيبة، لكن هذا في صلب خصائصها، فهي لا تحمل الإثارة والسرعة التي يوفرها لنا القتل والعنف طبعا.

حكاية اللبنانيين مع هذه المحكمة لم تنته بعد، وستشهد، بالتأكيد، فصولا كثيرة مقبلة؟ فكل ما حدث في لبنان خلال الأعوام التسعة الماضية، مرتبط بشكل مباشر أو غير مباشر، بالمحكمة الدولية. وقد لا تعيد المحكمة الأمن سريعا إلى لبنان، لكنها بالتأكيد، مدخل صحيح لمعنى المحاسبة.

السابق
قرايا وسرايا
التالي
أميركا تتراجع إلى المركز الثاني.. فلا تنزعجوا