شارون: حين يصبح السايكوباث بطلاً

ارييل شارون

ثمة نقطة يتيمة تقاطعت حولها تقييمات المحليين الغربيين حول شخصية أرئيل شارون وإرثه السياسي والإديولوجي: هذه الشخصية لخّصت خلال حياتها كل تاريخ إسرائيل الحديث، وجسدت كل طبائع الإسرائيليين المحدثين، أو على الأقل كل ماكانوا يطمحون أن يكونوه.

فشارون الذي نشأ، كما كل يهود في الدياسبورا كما في إسرائيل، في بيئة عائلية يشك فيها الجميع بالجميع، ويكره والد شارون الروسي الأصل كل اليهود القاطنين معه في مستوطنة قرب تل أبيب لأنهم لايحبون الموسيقى الكلاسيكية والمطالعة، ويعانون (على عكس عائلة شارون) من الفقر والعوز.
وشارون، مثله أيضاً مثل كل اليهود، كانت لديه منذ الصغر حين انضم إلى ميليشيا الهغانه الصهيونية هوس بأمر وحيد: مجابهة الخوف الذي يعشعش في أعماق كل يهودي منذ آلاف السنين. كيف؟ عبر التهور العسكري الذي أبداه شارون في كل حروب إسرائيل، وعبر ارتكاب الجرائم الجماعية بحق المدنيين الفلسطينيين منذ العام 1948 وصولاً إلى مذابح صبرا وشاتيلا العام 1983.
شارون المزارع- الجندي كان في الواقع مجرماً سايكوباثيا( كنا سنرى بعد قليل) وفق كل المعايير والمقاييس المتفق عليها في علوم النفس. ومع ذلك، احتفل به اليهود دوماً بوصفه بطلاً قومياً، ومثلاً أعلى يحتذى لـ”اليهودي الجديد” الذي أرادت الحركة الصهيونية خلقه عبر “الحديد والنار”، على حد تعبير جابوتينسكي، أستاذ شارون.
لكن، ماتفسير هذا الهوس اليهودي الإسرائيلي بهذا الجنون الشاروني السايكوباثي؟

جذور الشارونية
الباحث الإسرائيلي البارز إسرائيل شاحاك، وغيره الكثيرون، جهدوا لمعرفة دوافع هذا التطرف وجذوره ، فوجدوها في كل من الايديولوجيتين الصهيونية والدينية اليهودية المتطرفة.

وهذا صحيح بالطبع.
لكن الصحيح أيضا أن وجود دولة إسرائيل نفسها، بقوتها العسكرية المتفوقة وأسلحتها النووية المتطورة وإقتصادها الحديث الناجح، دفع الجنون العنصري الى أقصاه. وهذا مبدأ معروف في علم النفس: حين يمتلك الضعيف والخائف قوة مفاجئة، يصاب بكل موبقات القوة، من مرض العظمة الى انفصام الشخصية ، مروراً بكل لعنات السادية (تعذيب الاخرين) والماسوشية (تعذيب الذات).
معظم يهود إسرائيل اليوم مرضى بهذه الموبقات، او على الاقل بمعظمها. ولذلك فهم عنيفون وعميان في آن. عنيفون، لأنهم يشعرون بقوتهم ويريدون الاستمتاع بممارسة هذه القوة حتى الثمالة، كما يفعل كل المرضى النفسيين “السايكوباث” ( psychopath ) المعادين للمجتمع. (يعّرف قاموس “هيريتاج” الاميركي السايكوباث بأنه: شخص يعاني من اضطراب حاد في شخصيته. وهذا يتجلى أساسا في سلوكه المعادي للبشر او المجتمع). وهم عميان، لانهم لا يدركون أن هذه القوة نفسها ستكون السبب في دمارهم.
ولو لم يكن الامر على هذا النحو، أي لو لم يكن يهود إسرائيل قد أصبحوا بالفعل “سايكوباث” ، لكنا الان نسمع الكثير منهم يتساءلون: لماذا مّر 65 عاما على قيام دولتنا، التي كان يفترض ان تقّدم لنا السلام النهائي والامن الكامل، بدون أن يتحقق لا السلام ولا الامن ؟ وهل نحن مستعدون للعيش 60 سنة أخرى في لجج الحروب والعنف؟
هذا النوع من الاسئلة لا يبدو وارداً هذه الايام. فمع طالع كل صباح، تزداد غالبية اليهود تطرفاً. ومع مغيب كل شمس، تتفاقم لديهم تظاهرات جنون العظمة. وحين يأتي موعد النوم، تبقي هذه الغالبية أعينها مفتوحة تحّسبا للدفاع وتحفّزا للهجوم.
ولكي لا يبقى كلامنا هنا نظرياً أو قفزاً الى مبالغات لا أساس لها، لنتوقف قليلا أمام المعطيات الاتية :
1- تأكيدات أجهزة الاستخبارات الاسرائيلية المتكررة بأن هناك نحو 200 يهودي متطرف يعدون العدة لهجمات كاسحة يدمرون خلالها المسجد الاقصى، إما بالطائرات أو السيارات المفخخة.
2- لابل تتخوف هذه الأجهزة نفسها من احتمال قيام بعض المتطرفين اليهود بغارات جوية مدمّرة على مكة.
3- الغليان المدهش الذي تشهده الدولة العبرية حالياً، حيث غلاة اليمينيين (الليكوديين القوميين) يتصارعون مع مجانين اليمين (الاصوليين الدينيين) على أفضل وسيلة لتنفيذ التطهير العرقي ضد الفلسطينيين.
وماذا أيضاً؟
هناك المعطيات الاضافية الاتية التي أوردها ماكسيم غيلان،الكاتب والصحافي والشاعر الاسرائيلي المعروف، في مقابلة مع دروية ” إيكزيكيوتيف إنتليجنس ريفيو” :
يقول غيلان أن الشارونيين هم أهم ممثلي المتعصبين اليهود. لكن قادتهم في الوقت نفسه أهم إستراتيجيي إسرائيل، لانهم يمتلكون رؤى بعيدة. في أوائل الثمانينيات، كان زعيمهم شارون يريد إحتلال دول النفط العربية، وكان سيفعل ذلك لولا ان الولايات المتحدة أقنعته بـ”الاكتفاء” بغزو لبنان. لكن حزبه كاديما عاد الان إلى الطموح القديم: إعادة رسم الخرائط في شمال إفريقيا وجنوب غربي آسيا وكل العالم العربي الاسلامي.
اما بالنسبة لخطة الفصل في الضفة التي وضعها شارون، فهي في الواقع غير موجودة. إذ أن الجيش الاسرائيلي سيبقى قرب غزة وفي بعض الضفة الغربية وعلى الحدود مع مصر في منطقة فيلادلفيا، وهو سيواصل ضغوطه من هناك لطرد الفلسطينيين. الخطة تستهدف فقط تبرير إبتلاع الضفة وشطرها في الواقع الى نصفين.
الليكوديون القدماء لايفهمون خطة شارون على حقيقتها بسبب عماهم الايديولوجي. لكن حزب العمال الذي يفترض أنه يمثل معسكر السلام يفهمها جيداً. فهو يعرف أنها لن تؤدي الى الاستقلال الفلسطيني، بل الى دولة فلسطينية تسيطر عليها إسرائيل والإنجيليون الاميركيون المتعصبون. وهذا سيحقق لأسرائيل الاستقرار الامني والازدهار الاقتصادي، مع وضع الفلسطينيين في القفص.
ويوضح غيلان أنه في إسرائيل هناك مجتمع يتحكّم الجيش (خاصة هيئة الاركان) بمصائره السياسية والاقتصادية والدينية. في هذا الجيش توجد برأيه أخطر عصبة من الرجال على وجه الارض. ليس هناك على وجه البسيطة قادة وجنرالات متطورون للغاية ويمتلكون كميات هائلة من أسلحة الدمار الشامل، كما في إسرائيل. أنهم متطرفون للغاية، وقوميون متعصبون للغاية، وفق تعبيره.
هناك أنظمة مَرَضِية مجنونة اخرى في العالم. لكن ليس كما النظام الاسرائيلي. فهذا الاخير يعتبر “العالم كله ضدنا”، ويعلّم أطفاله أغنية تقول هذا الشيء بالذات. ليس ثمة دولة أخرى كإسرائيل تهدّد بتدمير العالم من خلال حرب نووية، او من خلال ارتكاب انتحار جماعي (عقدة الماسادا). نعم، الاسرائيليون يستطيعون تدمير العالم، او إشعال حرب عالمية تدمره، والمؤسسة العسكرية الاسرائيلية تمتلك الوسائل الضرورية لذلك.
كيف وصل الشارونيون الى هذا الجنون والتعصب ؟ ليس فقط بسبب مرض العظمة – الاضطهاد ، بل لأنه منذ 50 عاما تم خلق وضع عاش فيه المجتمع الاسرائيلي على المساعدات الخارجية. في البدء ، كان يهود العالم هم الذين يساعدون إسرائيل على تعزيز مواقعها، لكن خلال الاربعين سنة الماضية، كانت المساعدات تأتي أساساً ورسمياً من الولايات المتحدة في شكل مساعدات عسكرية يقال أن قيمتها 3،1 بليون دولار سنوياً. لكن الرقم الحقيقي يتراوح بين 16 الى 17 مليار دولار سنوياً. هذا خلق علاقة عضوية تقوم بموجبها إسرائيل باستلام الاموال لشراء الطائرات الدفاعية- الهجومية والتكنولوجيا والمعلومات الاستخبارية، ثم تستخدم هذه الاموال لتمويل الشركات الاميركية الكبرى، عبر وسطاء في وزارة الدفاع أصبحوا من أصحاب الملايين والمليارات.
الحرب الدائمة
هذه العلاقة تستند في بقائها على ضرورة وجود حرب دائمة. الاسلحة والتكنولوجيا العسكرية المتطورة تستدعي الحرب، وهي تفيد الجانبين الاسرائيلي والاميركي. والحال ان هيئة الاركان الاسرائيلية وقيادة الطيران لها مصلحة خاصة في إستمرار حال الحرب في الشرق الاوسط،، لان سلطتها وأرباحها ستتبخر في حال السلم.
المتعصبون الاسرائيليون في حال تحالف تام الان مع الفاشيين الجدد في واشنطن الذين يطلق عليهم إسم “المحافظين الجدد”. وهو تحالف بين قيادتين متعصبتين وشرهتين مدعومتين بمعسكرين يضمان ملايين المجانين: الاصوليون المسيحيون في أميركا والاصوليون اليهود في إسرائيل؛ والصناعة الحربية والمؤسسة العسكرية في أميركا، والصناعة الحربية والجيش في إسرائيل .
” معطيات الجنون ” التي أشار اليها ماكسيم غيلان، كانت لا تني تتراكم منذ ان تم اغتيال رئيس الوزراء الاسرائيلي رابين في العام 1995، على يد أصولي متعصب يدعى ييغال عمير. وهذا الاخير كان شاباً ترعرع في المؤسسات الدينية اليمينية المتطرفِة . وبعد اغتياله رابين حظي بإستقبال الابطال، ليس فقط في اسرائيل بل أيضا بين بعض اليهود الاميركيين.
من الشخصيات التي تأثر بها عمير، الدكتور باروش غولدشين من مستعمرة كريات اربة الذي قتل 29 فلسطينياً في صلاة الفجر في كهف البطاركة في 25/2/1994. كما تأثر بنوام لفنات الذي تتلمذ في المدرسة التلمودية التي تتخذ العنصرية مبدأ لها. ِ
ومنذ اغتيال رابين، ازدادت حدة الخطاب المتطرف في اسرائيل. ففي ندوة حول مكانة المرأة أمام 60 جنديا، قال الملازم أول غامليل بيريس ان الرجال اليهود يشكرون الله لأنه لم يخلقهم نساء. وذكرت
” نيويورك تايمز” ان احدى الجنديات الشابات، وهي ابنة حاخام اصلاحي، تحدته قائلة: “ربما عليك ان تشكر الله الذي جعل الناس كما هم”. فأجابها: ” لا أعتبر الاصلاحيين والمحافظين يهوداِ ” .
وجرت حادثة مشابهة مع الحاخام ريشارد بلوك، تم خلالها التهجم على التيار الاصلاحي لأنه “جمع ملايين اليهود الذين يعتبرون أسوأ من النازيين” . كما ِنشر اعلان في الصحف المتدينة في اسرائيل، صادر عن القادة المتدينين الاصوليين امثال الحاخام شالوم يوسف الياشيف والحاخام اوفاديا يوسف المرشد الروحي لحزب شاس، يشير الى ان التيارين الاصلاحي والمحافظ “يدمران الديانة اليهودية ويحاولان حرق الارض المقدسة “. ويتابع الاعلان انه ” لن يتم الاعتراف بهذين التيارين مهما كان وفقا للتوراة، كما يمنع منعا باتا التفاوض مع هؤلاء المخربين الذين يزيفون التوراة” .
وقد توغلت حالة عدم التسامح في تركيبة الحياة الدينية المؤسساتية الخاضعة لسيطرة الدولةِ . ويقول الحاخام ميشال مارمور ، عميد جامعة الاتحاد العبري ومدير معهد الديانة اليهودية في القدس،: “تشكل اليهودية اليوم في اسرائيل علامة تجارية مسجلةِ . الاسرائيليون الان باتوا يخافون كل ما هو مختلف، سواء أكان امتدادا مختلفا لليهودية ام عادات دينية أخرىِ. وعلى سبيل المثال، 25% من المهاجرين الثمانمائة الف الذين دخلوا الى اسرائيل من الاتحاد السوفيتي السابق في العقد الأخير، لايعتبرون يهوداً، على الأقل في عرف لمؤسسة الدينية الاصولية “.ِ
لقد وصف الكاتب الاسرائيلي صموئيل هالبرت هذه الظاهرة بانها “مشكلة أمنية قومية” ، ستؤدي الى تفاقم الانقسامات الداخلية الحادة بين من يريدون إسرائيل دولة دينية أكثر، وبين من يريدون الانتماء إلى مزيج من العلمانية والطائفية التي صنعت منه إسرائيل في البداية.
ويعتقد المفكر البارز أحمد إقبال ان إسرائيل تقف بسبب هذه الانقسامات على شفير حرب أهليةِ. فالخلاف (في رأيه) بين المتشددين والمحدثين معقد بعدد من العوامل الأثنية. وثمة انقسامات أخرى بارزة تساهم في التفكك، أبرزها الشرخ بين العسكرتاريا والرعاية الاجتماعية، حيث بدأت الأولى تطغى على الثانية . لا بل يتحدث إقبال عن ” انهيارات” في السياسات الاسرائيلية برز حين قام يهودي، هو ييغال أمير، بقتل يهودي آخر “باسم الرب” هو إسحق رابين.
قد تتضمن أحكام إقبال بعض المبالغة. بيد أن ذلك لاينفي الحقيقة بأن إسرائيل تمر بالفعل في مرحلة انتقالية خطرة مرحلة يخشى فيها بعض المفكرين الاسرائيليين أن تشهد تآكل الديموقراطية الاسرائيلية،
أو وقوع إسرائيل بين براثن الفوضى السياسية والاضطرابات الأثنية .
ويقول هنا المؤرخ الاسرائيلي ديفيد أوهانا، في دراسة بعنوان “آخر الأسرائيليين” أن ‘الدولة العبرية تحّولت إلى إقطاعات وجزر، كما وأن لحمها تقطع إرباً إربا، فكل مجموعة باتت تتحدث بشيفرتها السرية الخاصة، وتسور الأراضي والمناطق الخاصة بها، وترفع شعار” ومن بعدي الطوفان” .ِ
وهذا توصيف دقيق إلى حد بعيدِ. فالأيديولوجيا الصهيونية، المستندة إلى مفهوم الأثرة و التضحية بالذات لصالح المجموع، وهنت وتراجعت، وبدأت تحل مكانها ‘” قبلية ” جديدة تقوم الآن بنسف الوحدة الوطنية الاسرائيلية بشكل منهجي وعميق .
تجليات هذا التطور واضحة في كل مكان: فالاسرائيليون باتوا منغلقين على ‘” قبائلهم الأثنية” والدينية والمهنية. وهذا التطور يحدث وسط تفاقم خطير للتوترات في مجتمع مدهش في مدى تنوعه، حيث 20 في المائة هم من ” الصابرة ” (اليهود المولودون في اسرائيل)، و20 في المائة من الاتحاد السوفياتي السابق، و20 في المائة من العرب، و25 في المائة من يهود الدول العربية .
كيف يمكن للدولة العبرية ان تتجنب هذه الانفجارات الداخلية المحتملة؟
كالعادة ، عبر الحروب القادرة وحدها على إبقاء النسغ في نسيج المجتمع الإسرائيلي.
وهذه الحروب لها (حتى إشعار آخر) عنوان يتيم: الجنون السايكوباثي الذي جسده أرئيل شارون في أبهى صوره.

سعد محيو

السابق
الأحدب ل«14 آذار»: مشاركتكم حكومة مع حزب الله هو خطيئة بحق لبنان
التالي
فنيش: لبنان لا يحكم بفئة ولا بالغلبة ولا بالقهر