البنغلادشي المجهول في مطار تركي

بنغلادش في مطار بيروت
فكّرت أنّنا لسنا نحن من يُلام على سوء حظ أبناء بلده وأنّ قسوة الحياة هي السبب في مصيبتهم. فكرت أنّ معظمنا عنصريون اتجاه العمال الأجانب وأنّ البعض ينتحر في لبنان ولكن البعض الآخر أحياناً يبادل المعاملة الجيدة بالسوء. لا نستطيع التعميم إذاً. أفكار كثيرة ومتسارعة وشعور بالذنب أو بالخجل لا أدري إن كان فعلاً مبرّراً.

التقينا على أرض محايدة لا تخصّني ولا تخصّه. الندّ للندّ، القرين للقرين والنظير للنظير. كان جالساً على الأرض مسنداً ظهره إلى حائط مرتفع. ملامحه آسيوية وبشرته سمراء لكن ليست داكنة. جلست قربه أنتظر مثله موعد رحلتي. كان كلانا ممسكاً بهاتفه المحمول وبادرني إلى السؤال إن كنت متّصلة بالانترنت وان كان جهازي يلتقط “الواي فاي” في المطار. كانت هذه فاتحة حديث قصير. لم يكن بإمكاني الاتصال بالانترنت ولا هو أيضاً. فكّرت لوهلة أنّ الانترنت متوفر في مطار بيروت (لنصف ساعة مجانية). “يا لبخل الأتراك”، كرّرت لنفسي مراراً في المطار.

سألت المسافر المجهول الذي جلس قربي عن وجهته فأخبرني أنّ رحلته تأخّرت لمدّة 6 ساعات وقال إنّه متوجّه إلى دكا في بنغلادش. قال أيضاً إنّه يعمل مع منظمات أهلية معنيّة بالتنمية في الدنمارك. ابتسمت وقلت له “كيموناسو؟” وهي تعني “كيف الحال” في اللغة البنغالية. سألني كيف أعرف هذه العبارة وأخبرته أنّ عاملة منزلية من بلاده تعيش معنا في المنزل. ولمّا سألني من أيّ بلاد أنا وأخبرته “لبنان”، بدت التعابير التي ظهرت على وجهه أكثر من كافية لأعرف أنّه غير معجب ببلادي.

“لا تحب لبنان. أليس كذلك؟”، سألته. “لا، لا أحبّه”، أجابني بلا مواربة. ثمّ ساد صمت بيننا وتوقّفنا عن الكلام. كان من الممكن أن أحاول أن أكمل الحديث معه وأشرح له أنّ اللبنانيين لا يعاملون أبناء بلده بالسوء – ليس جميعهم على الأقل – ولكنّي لم أفعل وشعرت أنّي لا أملك شيئاً لأقوله.

فكّرت أنّنا لسنا نحن من يُلام على سوء حظ أبناء بلده وأنّ قسوة الحياة هي السبب في مصيبتهم. فكرت أنّ معظمنا عنصريون اتجاه العمال الأجانب وأنّ البعض ينتحر في لبنان ولكن البعض الآخر أحياناً يبادل المعاملة الجيدة بالسوء. لا نستطيع التعميم إذاً. فكرت أنّي لست أنا من يحرم ريهانا، المرأة التي تعمل في بلدي، من رؤية ابنها أو ابنتها، وإن كنت أفعل بشكل أو بآخر. أفكار كثيرة ومتسارعة وشعور بالذنب أو بالخجل لا أدري إن كان فعلاً مبرّراً.

كنت أحاول أن أجد تفسيراً في رأسي لهذا الموقف ولم أجد. وجدت فقط هذه الغرابة التي ولّدت سؤالاً آخر في داخلي، سؤالاً عن أولئك الأقل حظاً. موضوع العمالة الأجنية في العالم العربي تناوله الروائي الكويتي سعود السنعوسي في روايته “ساق البامبو” وإن كان يحاول أن يلقي الضوء على المجتمع الكويتي أكثر من الفليبيني في كتابه وعن مدى قدرة أهل بلده على تقبّل الآخر.

هذا الموقف الذي وجدت نفسي فيه ذكّرني بهوزيه ميندوزا بطل رواية السنعوسي ووالدته جوزفين. ذكّرني بريهانا وابنتها ميلوبا وجعلني أشعر كما يقول السنعوسي في إحدى مدخلاته أنّ “هناك أشخاصاً آخرين في أماكن أقلّ حظاً ويستحقّون الحياة أكثر من الكثيرين منّا أحياناً”.

السابق
أربعون محمد دكروب: سنديانة من لبنان ماتت من غير أن تشيخ
التالي
الداعوق: حرية التعبير مطلقة لكن لا ينبغي أن تتحول الى فوضى