أربعون محمد دكروب: سنديانة من لبنان ماتت من غير أن تشيخ

أربعون محمد دكروب

لم يحضر محمد دكروب. ظلّ مغيَّباً في ذكراه. لم يكمل الطريق، أكمل طريقه إلى مكان آخر. أربعون يوماً من الرحيل التفّ حولها أمس أصدقاء دكروب وأسرة مجلة “الطريق” في “قصر الأونيسكو”. “أشرف” عليهم جميعهم من “عليائه”، وثغره الذي لا يكفّ عن الابتسام يغمر الحاضرين.

قدم اللقاء الدكتور حسن اسماعيل الذي سأل: “لست أدري من يحتفي بمن؟ أنحن نكرمك في يومك أم نحن مكرَّمون في ذكراك؟”.
مسيرة الراحل أوجزها نقيب الصحافة محمد بعلبكي الذي قال: “قضى دكروب شبابه وعمره في خدمة الفكر. من مهن يدوية إلى مولع باليراع، كانت رحلته شاقة، ولكنها أهّلته مع الأيام لأن يحتل مرتبة في الأدب والفكر. كان مشرئباً دائماً نحو العطاء الأدبي الإبداعي. امتازت كتاباته بالجرأة. كان في طليعة الأدباء اللبنانيين والعرب الذين جاهدوا في سبيل أدب حر. لم يخلد يوماً إلى الراحة، صرف أيامه للأدب، تعبّد له. يبقى دكروب من سنديانات لبنان الأبدية الدهرية، هو الذي بقيت الشيوعية دينه وديدنه، فقد كان من الشيوعيين الأقحاح”.
كلمة اتحاد الكتاب اللبنانيين ألقاها أمينه العام الدكتور وجيه فانوس الذي أضاء على هزم الراحل الموت وإحيائه ذاته بوعيه الجدلي الثقافي “كما أحيا المسيح لعازر”. فـ”في صور كان يعيش العناء في بيت العناء، بلا مدرسة، كان مجرّد مساعد فول، وعاملاً سنكرياً ومنخرطاً في الكثير من الأعمال الأخرى، ليسدّ الرمق، والرمق وحده. بيد أنه بما امتلك من قدرة على الاستيعاب والتحليل، تمكّن من أن يحيي ذلك الـ”لعازر” الذي فيه. وقد بدأ ذلك بقصته الأولى التي باع بها ذلك الموت”.
وبالانتقال إلى الاتحاد الذي كان دكروب من المساهمين في إنشائه، استغل فانوس المناسبة للدعوة إلى الالتفاف حول الاتحاد وتذليل الخلافات فيه.
ذلك الذي مات من غير أن يشيخ، دكروب الذي كان عضواً في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، استذكره الدكتور شفيق البقاعي الذي وصفه بـ”كادح الفكر والنقد والمثابرة على معالجة هموم الناس”، مضيفاً: “امتلك ناصية الصبر وطول الأناة، في حياته انتظر 60 عاماً حتى يكتب ما أراد. جعل الكتاب رفيقه ورفيق دربه، والقلم محراثه. بقي على إيمانه الراسخ بأن الاشتراكية لم تمت، فحافظ على صدقيته لها. حافظ على شرف الكلمة التي صاغها والرؤى التي لم يخنها يوماً. لم يدخل مدرسة ثانوية ولا حتى جامعة، عمّق مسيرته حين أرسله الحزب الشيوعي إلى الاتحاد السوفياتي، هو القارئ النهم، يقرأ وهو الشارع”.
من أصدقاء الراحل ناشر جريدة “السفير” طلال سلمان الذي خاطب غيابه قائلاً: “كنتَ بعينيك الصغيرتين ترى الحلم فتدخله وتبشّرنا بغد أفضل، تعرف أنك لن تكون فيه، من هنا اطمئنانك إلى أنه سيتحقق لغيرك… عشت الشعر ولم تنظمه، عشت في قلب الرواية ولم تنجز كتابتها. كنت البطل خارج الرواية، أيها الخارج من الطريق إلى الطريق، بينما ضاع غيرك على الزواريب… أيها الذي كنت فقيراً وعاش فقيراً ومات فقيراً، من دون أن يغادره الشك في أنه أغنى الأغنياء. يا ناشر البهجة في الجماعة وأنت وحيد”.
خيبات الراحل “أحصاها” الياس شاكر الذي ألقى كلمة أسرة مجلة “الطريق”. الخيبة الأولى هي “عندما عزم الفتى على التطوع للقتال انتصاراً للشعب العربي الفلسطيني بدافع من شعور قومي. فإذا به يكتشف أنه كمن يمضي إلى الحج والناس راجعون، وقد اختُزلت الناس، ناس العالم العربي الكبير، في أنظمة وجيوشها. أما الخيبة الثانية فجاءت لاحقاً. إنها خيبته في التواصل الروحي مع العالم العربي الأرحب، معوّلاً على ناسه الحقيقيين، آملاً في أن يتوصّل وإياهم إلى أخذ أمرهم بأيديهم. كانت وسيلته للتواصل الكتابة الأدبية… وهنا كانت تنتظره الخيبة الثانية، بقرار منه هذه المرة، وكان بالتأكيد قراراً متسرّعاً، إذ اعتبر أن مجموعته القصصية الوحيدة، “الشارع الطويل”، باكورة كتبه، لا تشي لدى كاتبها بقماشة أديب قاصّ. ولعل هذا الحكم الصارم كان أول حكم يصدر عن الناقد الأدبي المبتدئ، محمد دكروب”.
واعتبر شاكر أن “الكتابة العلمية لتاريخ لبنان الحديث باتت مستحيلة من دون دكروب”.

السابق
جورج وسوف يستعد للعودة
التالي
البنغلادشي المجهول في مطار تركي