ماذا بعد «داعش»؟

لم تكن توقّعات «الجمهورية» قبل أشهر بأنّ الحرب السورية ستصبح حروباً، إحداها بين النظام والمعارضة، والثانية بين المعارضة والأكراد، والثالثة بين فصائل المعارضة المسلّحة ذاتها، ضرباً في الغيب، بل كانت نتاجَ قراءة قانونٍ يحكم كلّ أنواع الحروب التي حين تطول تتغيّر أطرافُها وتأخذ وجهات جديدة مختلفة عن وجهتها السابقة.

ويتساءل كثيرون حاليّاً عن سرّ هذا العنف الدموي الذي يحكم النزاع بين اطراف المعارضة السورية المسلّحة، ولا يجدون تفسيراً منطقياً له. فالبعض يفسّره بأنه نزاع بين القوى الخارجية الداعمة للمسلحين في سوريا والتي بدأ الخلاف يدبّ في ما بينها، فكان لا بدّ من ان ينعكس على الحلفاء داخل الميدان السوري.

والبعض الآخر يعزو هذا العنف الى نزاع على الثروة، فكلّ فصيل يطمح للسيطرة على النفط والغاز في شمال شرق سوريا، إذ يعتبر أنّ السيطرة عليه والإتجار به يؤمّنان مصدر دخل ثابت يعفي هذه الفصائل من الاعتماد على الدعم الخارجي والالتزام بأوامره.

وبعض ثالث يفسّر هذا العنف بأنه طلب اميركي لكلّ قوى المعارضة المسلّحة أن تُخرج “داعش” من الساحة السورية لكي يصبح ممكناً تحصين هذه القوى لتكون مقبولة دوليّاً بعد ان تخلع عنها رداء الإرهاب الذي انتقل من “النصرة” إلى “داعش”. ولا يستبعد هذا البعض ان تكون هناك قوى عدة متخوّفة من سيطرة “داعش” على شرق سوريا وغرب العراق لتجعل منهما قاعدة تنطلق منها لتغيير الاوضاع في دول المنطقة كلّها.

ومن هنا ترتفع الاتهامات في وجه “داعش”، في اعتبارها “صنيعة” النظامين السوري والايراني، وإن كانت هذه الاتهامات ترتبك في تفسير الصدام الدائر حاليّاً في “الأنبار” بين “داعش” وبغداد المتحالفة مع دمشق وطهران. لكنّ تعدّد تفسيرات هذا العنف المتبادل تتجاهل أنّ “داعش” تمثّل تنظيماً يملك استراتيجية مستقلة إقليميّاً ودوليّاً تتقاطع احياناً مع هذه الجهة أو تلك لكنّها تحافظ على استقلالية قرارها ومواردها وعقيدتها ذات الجذور المتشدّدة.

وإزاء العنف الذي تشهده المناطق الشمالية السورية، والمناطق الغربية العراقية، يتساءل مراقبون عمّا إذا كان من شأنه إضعاف جميع الاطراف المتنازعة لمصلحة النظامين السوري والعراقي اللذين باتا يواجهان معارضة مسلّحة منهوكة القوى ومنقسمة على ذاتها، أم أنّ تخلّص احد طرفي هذه المعارضة المسلّحة من الطرف الآخر سيمكّنه من ان يحظى بدعم اقليمي ودولي كافٍ ليستكمل مشروعه ضد النظام، إمّا لإسقاطه أو لتقسيم البلد بأسره؟

وهذا الاحتمال يقود الى فكرة اخرى وهي أنّ الاطراف المعارضة للنظام السوري بعدما ادركت استحالة تغيير موازين القوى لمصلحتها ضدّ النظام باتت اليوم تسعى الى تغيير موازين القوى داخل المعارضة نفسها، وهو امر سيستفيد منه النظام بدرجة كبيرة، سواء على المستوى الميداني حيث لا يستبعد المراقبون تقدّماً عسكرياً داخل حلب نفسها بعدما باتت شبه خالية من “داعش”، أو على المستوى الشعبي حيث يخسر المسلّحون يومياً بيئتهم الحاضنة التي تميل الى الإحساس بأنّ الأفق بات مسدوداً، وإنّ تجاوزات المسلحين قد أنستها اعتراضاتها على النظام.

وفي هذا الإطار يتوقف المراقبون عند ما اعلنه في الأمس احد قادة “داعش” ابو محمد العدناني الذي استباح دم اعضاء الائتلاف والمجلس الوطني والمجلس العسكري وأركان “الجيش الحر”، بحيث بات اغتيال ايّ منهم، بغضّ النظر عن الفاعل، في ذمّة “داعش”.. وقد اصبحت ذمّتها واسعة جدّاً.

ولو أنّ الامر قد اقتصر على الاقتتال الميداني بين الطرفين لهانَ الأمر، ولكنّه انتقل الى صفوف السياسيين انفسهم، حيث قدّم العشرات من اعضاء الائتلاف استقالاتهم بعدما فشلوا في ايصال مرشحهم رئيس الحكومة السورية المنشقّ رياض حجاب الى رئاسة الائتلاف بديلاً من أحمد الجربا الذي لم يتفوّق عليه إلّا ببعض الاصوات، ما يشير الى انّ الاستقطاب بات حادّاً بين مكوّنات الائتلاف نفسه وبين القوى والدول الداعمة له.

ولقد تنبّه المراقبون الى انّ الاجتماع الانتخابي للائتلاف الذي ينبغي ان يتّخذ قراراً نهائياً حول المشاركة في مؤتمر جنيف، كان مقرّراً انعقاده في القاهرة، وكانت كلّ الاتجاهات تشدّد على المشاركة، على رغم اعتراض المجلس الوطني، وإذ به ينعقد في اسطنبول ويرجئ قراره الى الاحد المقبل، ما يوحي بأنّ هذا الائتلاف قد دخل مرحلة الذبول والتآكل وأنّ بديله هو القوى العسكرية الممسكة بالأرض في بعض المحافظات السورية.

وفي مقابل هذا الانقسام الحاد عسكرياً والتآكل المتسارع سياسياً يتابع النظام السوري خطته في التحاور مباشرة مع مجموعات مسلّحة في مناطق سورية، لأنّ ذلك هو الطريق الوحيد لإنهاء النزاع بعيداً عن تدخّلات الخارج.

وفي هذا السياق يقول اصدقاء دمشق إنّها تعيش لحظات يمتزج فيها الشعور بالانتصار مع الحذر الشديد ممّا قد تخبئه الايام، “فالنظام لا يقلّل من تأثير المناخات الايجابية على الصعيدين الدولي والاقليمي بعد الاتّفاقين “الكيماوي” و”النووي”، لكنّه في الوقت نفسه لا يقلل من احتمالات انقضاض قوى فاعلة ومؤثّرة في القرار الاميركي والغربي على هذه الايجابيات، خصوصاً أنّه يعتقد أنّ نفوذ اللوبي الصهيوني ومال النفط قادران على دعم معارضي سياسة الرئيس باراك اوباما ووزير خارجيته جون كيري داخل اميركا وخارجها”.

ولذا فإنّ الأُمور كلّها تبقى مرتبطة بالجواب على السؤال الآتي: ماذا بعد “داعش”؟ وهل سيؤدّي سقوطها في سوريا الى انفراج؟ أم سيؤدّي الى فصل جديد من هذه الحرب الدموية المدمّرة؟ بل يبقى السؤال أيضاً: هل يستطيع اوباما إكمال مشواره التصالحيّ مع موسكو والتفاهميّ مع طهران؟ أم أنّ خصومه المتعدّدي الاهداف والاغراض سيوقعون به على غرار ما فعلوا بنيكسون عام 1974 أو كينيدي عام 1963؟

السوريّون هنا يستذكرون بيت شعر لأبي العلاء المعرّي يقول:

“أتحسبُ أنّكَ جرمٌ صغيرٌ …وفيكَ انطوى العالمُ الأكبرُ.

السابق
الرئيس سيلمان بين الجرأة والمغامرة
التالي
سوريا وانكسار «القاعدة».. من يستفيد؟