نساء على باب الله: من الترمل الى التسول

تسول
يزوّج الاهل بناتهن في سن مبكرة امتثالا لعقيدة تقول "سترة الفتاة تزويجها". لكنهم لا يحسبون حساب الزمن. من هنا تضطر بناتنا للعيش بذل بسبب الفقر بعد ترملها او طلاقها. ومنى واحدة من بناتنا التي تتسوّل لئلا تنحرف... فما هي قصتها؟

لبست زينب فستانها الاسود البالي نوعا ما وانتعلت مشاية خفيفة تساعدها على المشي مسافات: “أنّى لها ان تدفع للفان الالف ليرة كل كم متر؟”. من بيتها في بئر حسن تسير مع خيوط الشمس الحارقة لتصل قبل ارتفاع آالظهر. تسير باتجاه الشرق الى خط حارة حريك – طريق المطار.

هناك ترى من بعيد رفيقاتها الأرامل والمطلقات والمهملات من اولادهن والمهجورات من ازواجهن. كل واحدة تتمسك ما استطاعت الى ذلك سبيلا.

صحيح انهن محتاجات، لكن على، الآخر المؤمن، الذي يقصد المسجد للصلاة والدعاء ان يشعر بهذه الحاجة، والا كيف سيدفع لها ولرفيقاتها، شبه الأميّات وغير القادرات على العمل أصلا، لعدم امتهانهن مهنة مناسبة.

هذه منى التي لا تتقن غير تنظيف المكاتب أصيبت بديسك في ظهرها منعها من ممارسة هذه المهنة المرهقة ببدل مالي زهيد… توقفت عن العمل، فضاقت بها الاحوال، وهي أم لولدين يافعين ما زالا في المدرسة. نصحتها زينب ان “تعالي معي الى بوابة الله حيث الكرماء”. لكن منى أبت على نفسها ذلك، فهي لم تعتد ان تطلب من أحد، كائنا من كان، أيّ مبلغ ولو إستدانة.

مرّت الفترة الاولى على منى كأصعب ما يكون، فكانت تستدين من جاراتها أشياء لا تثقل بها عليهن. وهي المعروفة بحيائها. طلبت من مدير المؤسسة التي تعمل بها كعاملة تنظيف إعادتها الى العمل الا انه رفض بحجة انها تتغيّب كثيرا عن الدوام ما يضطرّه لحسم جزء من راتب الضئيل اصلا. “لا أحد يرحم قالت في نفسها”.

نصحتها احدى الجارات بقصد جمعية خيرية قريبة، لم تكذّب خبرا. دخلت، بخجل، الا انها تفاجأت بعدد كبير من النساء يحتللن الأدراج والمدخل والقاعة. كلهن بانتظار الأخ الذي يدفع لكل منهن 5 آلاف ليرة يوم الجمعة. اضافة الى بعض الملبوسات والطعام بحسب المتوفر.

لم تتمكن من مدّ يدها الى الأخ لتقبض الخمسة آلاف. أحسّت بألم شديد يقبضُ على قلبها، خرجت مسرعة. بكت وهي تنزل الدرج. وحدثت نفسها: “لماذا أهلي لم يعلمنني مهنة أعتاش منها بكرامة؟”.

إلتقت برفيقتها زينب، تصعد فرحة، وهي تحمل اكياسا رمتها على جانب المدخل الحديدي للجمعيّة. سألتها: أين كنتِ؟. أجابت زينب: “كنت امام مدخل جمعية (…) انتظر دوري حيث كانوا يوزعون قطعة لحم على النسوة. ومررت بطريقي الى مسجد (…) حيث وزعت اللجنة النسائية فيه بضعة قطع من الألبسة علينا. لماذا لم تذهبي يا منى؟”.

غصّت منى بالبكاء، لكنها خبّأت وجهها حتى لا تجرح رفيقتها. واكملت سيرها نحو الطريق تنظر يُمنة ويُسرى، فترى المحال مليئة بالزبائن، ومحال الخضار تعجّ بالنسوة. تُكمل طريقها الى المنزل، متألمة شاردة، ترتجف من شدة الجوع والألم، لكن فجأة تشدّها يد من الخلف. تنظر الى الوراء لترى شابا يصرخ بوجهها أن “إنتبهي كان هذا (الرانج) المُظلل الشبابيك سيدهسك”. تنظر الى السيارة فتراها قد بعُدت مسرعةً، غير مهتمة ان كانت منى قد تأذت أم لا.

الى منزلها القديم في حيّ السلم، تعود سيرا على الاقدام، قاطعة من الحارة الى شارع زين الدين، فساحة عين السكة، ومنها الى المريجة، ومن ثم الى منزلها لتوّفر ألف ليرة تريد تشتري بها ربطة خبز لها ولولديها.

ليلا لم يغمض لها جفن. قررت التغاضيّ عن كبريائها والتضحية كأم بعزّة نفسها لأجل ولديها.

منذ الصباح الباكر لبست مشايتها السوداء، وخبأت في جيبها كيسا كبيرا مشدود الأربطة، وضعت داخله أكياسا صغيرة. وارتدت قميصا أسود طويلا قطنيّا يرطب جسمها من العرق وحرّ الشمس. وسارت من حي السلم، أولا، نحو مجمّع الامام (…) ومنه الى مجمّع (…) لكنّ العطاء كان قليلا. فاليوم ليس يوم جمعة.

عادت اليوم بقليل من اللحم وربطة خبز. فرحت منى في داخلها لأنها أمنّت لهذا اليوم وجبة لولديها، ولأنها عادت قبلهم فهي لا تريد ان يروها بهذا المنظر الكئيب، وهي التي كانت ترّتب نفسها رغم انها كانت تعمل كعاملة تنظيفات في احدى المؤسسات.

ليلا، ذهبت لزيارة رفيقتها زينب لتستفسر منها عن خطة الغد. فكان ان اكتشفت ان يوم الجمعة لوحده يؤّمن لها مونة أسبوع بكامله من طعام وخبز ومال وحلويات وثياب.. وليس عليها ان تسير كل يوم، ان هي ارادت الاكتفاء فقط.

…منذ ذلك الوقت، وترى منى انّ يوم الجمعة هو يوم عيد بالنسبة لها، إذ أنها تسير من مسجد الى مسجد، ومن مجمّع الى مجمّع، ومن مكتب خيريّ الى مكتب خيريّ.. وتعود – رغم تعبها الشديد – وقد اطمأنت على قوُت أولادها اليتامى الأسبوعيّ.

وان كانت تعيش مأزق تعليم ولديها بعد انتهاء المرحلة المتوسطة. الا ان المجتمع الذي رماها أول مرة على زوج فقير دون ان تتعلم مهنة ما تقيها شرّ العوز، لن يتخلى عنها في حال استعطفت أحد التجار، سيما وان جاذبيتها تلعب دورا في سرعة قبول مساندتها، لانه وبحسب احدهم “مجرد ان يعرف المُحسن ان هذه المرأة أرملة وفقيرة فإنّه لن يتخلى عنها”، و”ان كان الجمل بنيّة والجمّال بنيّة”، كما كانت تقول جدتي الحاجة آمنة رحمها الله.

من منى الى كل عائلة، تشبه عائلتها، رسالة مكتومة: “المهنة سلاح بيد الفتاة”. فلا تحرموها حق الدفاع عن نفسها في مجتمع متغوّل.

السابق
القاضي صقر أمر بتوقيف 5 مساجين في رومية وآخرين في سجن طرابلس
التالي
الاعدام لـ 14 متهما بزرع عبوات على طريق المصنع