الخلاص المسيحي للبنان

الفتنة المذهبية التي ترخي بظلالها على لبنان ليست اسوأ المخاطر على اللبنانيين وان كانت أبشعها، لانها تشي بانحطاط اضافي للاجتماع اللبناني الذي كان يروج له دوما باعتباره متقدما على جيرانه واقربائه، وتعيد الى الاذهان ابغض صور الحرب الاهلية التي كان يعتقد انها صارت من الماضي.
لن يصل السنة والشيعة في لبنان الى ذلك الحد العراقي او حتى السوري. لكن هذا اليقين يحتاج الى الكثير من البراهين، مثلما يحتاج الى تخطي الكثير من الموانع غير المتوافرة للاشقاء السوريين او العراقيين. اتباع المذهبين، او بالتحديد العامة منهما، لا يتمتعون بالحصانة الكافية لتفادي هذا المصير، والاصح انهم يزدادون حماسة كل يوم نحو المضي قدما في هذا الخيار حتى النهاية الدموية. التعايش يكاد يصبح مستحيلا. والفرز المذهبي يتسارع في اكثر من منطقة ويؤدي الى ما يشبه القطيعة.
الغالبية السنية والشيعية التي يقال انها لن تسير في هذا الاتجاه وستقاومه مهما كلف الامر، تتضاءل يوميا وتنزوي امام صخب الشارع وهديره الذي ينادي بالثأر المتبادل. وهنا تجري استعادة سير الحروب الاهلية التي تعتمد في البدء على حادث فردي، يتجمع حوله الجمهور ، وتتكرر بعده ردود الفعل حتى تجرف معها تلك الغالبية بسيل من مشاعر الحقد والكراهية الدفينة، التي تبادلتها الطوائف والمذاهب اللبنانية منذ ان سكنت جنبا الى جنب في هذه البقعة من الارض.
ترميم العلاقات بين السنة والشيعة اللبنانيين (وغير اللبنانيين) وهم خالص. لا يمكن لاي منهما ان ينكر او ينفي ان الفتنة المذهبية هي الظاهرة الأعم في العالم الاسلامي، وهي المحصلة النهائية الوحيدة لقرون او على الاقل لعقود من الشقاق والنفاق الذي كان الاستعمار غطاؤه الاخير، وكان الاستبداد علاجه الوحيد.. بدليل ان اتباع المذهبين مختلفون اليوم وفي كل مكان على الموقف من الاجنبي، وعلى الموقف من المستبد في آن معا.
تاريخ لبنان وتجربة اللبنانيين وثقافتهم ووعيهم لا تدع مجلا للشك في ان المستقبل قاتم. الضربات الراهنة المتبادلة بين السنة والشيعة في اكثر من منطقة لا تقود الا الى الهاوية.. والى تجذر القاعدة الذهبية لاي حرب اهلية: لا يوضع السلاح جانبا، قبل ان ينكسر احد الطرفين.. هل يوجد في لبنان شيعي واحد او سني واحد، فخور بانتمائه المذهبي، يناهض هذه القاعدة ويعمل على تفاديها؟
الحائل الوحيد حتى الان دون الذهاب الى مثل هذه المقتلة اللبنانية، مسيحي. حتى اللحظة ما زالت روح لبنان وفكرته وحتى وظيفته مسيحية، برغم ان المسيحيين عامة انكسروا في الحرب الاهلية الاخيرة وانتجوا قيادات ورموز سياسية ودينية بائسة لا تقارن بما افرزته بيئتهم المتميزة في عصرها الذهبي. لكن ، ومهما تكاثر السنة والشيعة اللبنانيين في العدد والعدة، فانهم لن يستطيعوا تفريغ هذا المكون الجوهري للبنان.. الذي لن تكون اقليته العددية، عائقا امام استعادته دوره التاريخي.
ليس عابرا القول ان المسيحية اللبنانية المتمثلة بالمؤسستين الوحيدتين العاملتين بالحد الاقصى من النزاهة والحيادية، رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش، تؤديان اليوم دور قوة الفصل السياسية والعسكرية والامنية بين السنة والشيعة الذين يهدد جنونهما المذهبي باحراق البلد عن بكرة أبيه. وليس صدفة ان تصبح هاتان المؤسستان العنوان الرسمي والشرعي الاخير للبنان في الخارج، بعدما سبق ان افرغتا من محتواهما وتأثيرهما في العقدين اللذين اعقبا انتهاء الحرب الاهلية الاخيرة.
ولان السنة والشيعة ماضون نحو تحطيم بعضهما البعض، فان هذا الدور المنوط برئاسة الجمهورية وقيادة الجيش، مرشح للتوسع والتطور، وربما العودة الى نقطة البداية، الى مرحلة التأسيس الاولى للكيان اللبناني التي لم يكن فيها المسيحيون اللبنانيون وكلاء او عملاء للمتصرف او المستعمر الاجنبي، كما في بعض كتب التاريخ الاسلامية، بل نخبا متقدمة بالمقارنة مع التخلفين السني والشيعي اللذين يجري استعادتهما اليوم برموز وصور وحجج لا تختلف عما كان سائدا في زمن المماليك.

السابق
ريفي: حزب الله الوجه الآخر لـداعش والنصرة
التالي
2014 عام الاستحقاقات العربية