لبنان بلد يفيض عن حدوده

هذا عام مضى. عام بلا نافذة على الضوء. مستقبل لبنان القريب محسوب بدقة. إنه يشبه العام 2013، مع إضافات مأساوية واستمرار الرقص فوق الهاوية، وإدراك الجميع، أن العودة إلى الحافة، باتت أملاً بائساً.

أمضى البلد سنته في ممارسة سياسة «النأي بالنفس» عن لبنان. ربما، لأول مرة، يتحوَّل من ساحة للآخرين، وحروب الآخرين، إلى لاعب في ساحات الآخرين وحروبهم، بالأعيرة المناسبة والذخيرة الحاسمة. صار الآخرون يطالبونه بالخروج من ساحاتهم.

كان هذا «الخروج» من لبنان إلى الإقليم، انعطافة كبيرة في حياة لبنان، لم يعرفها من قبل، ولكنها جاءت كخيار طبيعي، في سياق تسلسل الأحداث بعد اندلاع «الربيع العربي» وانقسام العرب حوله، وانقسام اللبنانيين وتخندقهم في ميادينها، وفق أهواء سابقة وعلاقات سالفة، تناغمت مع تياري لبنان الكبيرين، الثامن والرابع عشر من آذار.

من علامات الزمن اللبناني الجديد، في العام 2013، ما يلي:

أولاً: المقاومة والنظام السوري في خندق واحد، منذ برهنت المقاومة على أنها مشروع قابل للنجاح. سوريا والمقاومة وإيران، كانوا في حلف واحد، وخاضوا معارك وصمدوا في مواجهة الاحتلال والعدوان والعقوبات والحصار.

ثانياً: لم يكن لعاقل أن يتصوَّر بأن يستبدل «حزب الله» أولوية المقاومة، بأولويات أخرى، فرضتها شعارات الربيع العربي في سوريا. هي مع الحرية والديموقراطية في تونس وفي مصر وفي البحرين، وليس في سوريا، لأن هذه الشعارات، في الترجمة الميدانية، ستمس أولوية المقاومة.

ربما كان «حزب الله» يتمنى أن يقدم النظام في سوريا على إصلاح حقيقي، غير شكلي، يوفق في ذلك، بين تبنيه للحرية والديموقراطية، بشراكة النظام، الذي يعتبر حاضناً وداعماً للمقاومة. لكن النظام، لفداحة سلوكه، لا يأتمر إلا بأمره، وقلما يقبل النصح.

وبسرعة تحوّل «الربيع» في سوريا، إلى حروب الآخرين، على النظام وعلى المقاومة. وقد بانت وجوه الآخرين من خلال انتسابهم إلى محور، كل المشاركين فيه، أعداء أو خصوم للمقاومة .

كان من المنطقي، أن يكون «حزب الله» مع النظام، في السراء والضراء، ومن كان يظن غير ذلك، يتجاهل، أو يبخس من حجم العلاقة ومتانتها بين النظام والمقاومة. وبناء على ذلك، وبعد تأزم وضع النظام وخساراته المتوالية ميدانياً وفقدانه السيطرة على 60 في المئة من الأرض، وتهديد حدوده الدمشقية ومدنه الحيوية وطرقاته الاستراتيجية الموصلة إلى معاقله على الشاطئ، دخل «حزب الله» من بوابة القصير، منهياً مرحلة التدخل المتذاكي، بالتدخل الاستراتيجي، الذي تفرضه طبيعة المعركة، التي باتت على أنها، بين محورين قديمين: محور «المقاومة» ومحور «السلامة».

ثالثاً: انتقل «حزب الله» من مدعوم إلى داعم، وانتقل لبنان، من كونه محطة استقبال إلى منصة انطلاق. انعطف لبنان باتجاه غير مسبوق. تحوَّل عامل لبناني، (حزب الله) إلى فاعل إقليمي، واحتل موقعاً متصدراً في المعادلة الدولية، إلى جانب حليف قوي هو إيران. وعند هذا المنعطف، اشتد النزاع بين اللبنانيين، وتحوّل الانقسام إلى فراق، وازداد كل فريق التصاقاً بمحوره. فلا طاولة حوار ممكنة، ولا حوار بالواسطة مجدٍ، ولا قدرة للفريقين على الالتقاء لتأليف حكومة، أو مشاركة تشريعية، أو التحضر لانتخابات رئاسية أو…

كل لبنان يدور حول محورين يتباعدان إقليمياً: السعودية وإيران. كل فريق قادر على تعطيل الآخر. فدخل لبنان في العطالة السياسية والدستورية والامنية، مخلِّفاً حالة من الفوضى، التي تتدحرج من الأطراف النائية، إلى قلب العاصمة.

رابعاً: في ظل هذا الانقسام الحاد، وفي حُمَّى احتدام الصراع إعلامياً، وبلوغ التحريض المذهبي مدى غير مسبوق، بات من المستحيل ملء فراغ ينذر بالخطر على الكيان. ولأول مرة في ما بعد الطائف، تبدو التسوية بعيدة المنال، ما يجعل انفراط عقد الاجتماع اللبناني كيانياً، رهناً بالتحولات التي تهدد كيانات المنطقة، المرشحة للتفكك والانهيار والفشل. فما يحصل في العراق شبيه بما يحصل في لبنان، وإن بنسبة أدنى، وما يتداعى في سوريا ينعكس تداعيات على المجتمع والكيان والدولة.

لبنان، لعله الوحيد في دول المنطقة، الذي قام على مبدأ لا يعلوه مبدأ، هو مبدأ التسوية. كيانه ابن تسوية، حصلت بعد تدمير المملكة العربية السورية بقيادة فيصل، ميثاقه الوطني الذي احتكم إليه اللبنانيون؛ هو تسوية لصيغة التعايش والسلطة وتوزعها والحياد الملتبس للدولة، واتفاق الطائف قام على التسوية التي حكمت مرحلة ما بعد الحروب اللبنانية… كل ما بُني في لبنان قام على قاعدة التسوية. ولقد عرف اللبنانيون أن التسوية هي نسيج لبنان السياسي والاجتماعي وحتى الثقافي، وقد صانوا هذه التسوية بقاعدة ذهبية تقوم على حفظ التوازن بين القوى والتآلف معها… كما عرف اللبنانيون كيف يمزقون التسوية، وذلك في حقب اقليمية رجراجة، فدخلوا في حروب وصراعات احتاجت إلى مساعدات إقليمية ودولية، وكيف حصلوا في نهاية الأزمة، على اتفاق تسوية، تفرضها موازين قوى جديدة، من دون أن تكون هذه التسوية قائمة، إلا بإرادة دائمة للقوى كافة.

دخل لبنان في سنة 2013 نفق اللا تسوية. لا تسوية على شيء. فيما الجوار الإقليمي مأزوم ومشغول بحروبه الطاحنة، إما قتالاً أو دعماً أو تمويلاً. أما العالم فلا يمكن ان ينجح في تسوية إلا من بوابتي إيران والسعودية. وهما مقفلتان، حتى إشعار آخر، تأذن به انتهاء الحالة السورية.

خامساً: من علامات الأزمنة اللبنانية أن العنف هو الخبر المرّ الذي يقتاته اللبنانيون. لقد استمرّ العنف في زحفه وتسرّبه إلى المناطق اللبنانية الحساسة، ثم اندلع في أكثر الأمكنة المحتقنة مذهبياً، حتى بلغ العاصمة من دون موانع سياسية، بل ربما بالعكس، انتشر من خلال احتضان سياسي مذهبي ودعم إقليمي مستتر، لإقامة توازن عنفي، بلا غلبة لأحد، ولتدفيع «حزب الله» ثمن انخراطه في الحرب السورية إلى جانب النظام. ونجح هذا العنف المنتشر في قضم حياة اللبنانيين وترويعهم عبر سيارات مفخخة وقصف صواريخ وإلقاء متفجرات، وعمليات اغتيال اضافة إلى اشتباكات موسمية، تكاثرت مع ازدهار الجزر الأمنية المحمية جداً مذهبياً.

وفي ظل انتشار السلاح، بشكل جنوني ومنظم ومشاعي، بات لبنان، قضية أمنية، يتم علاجها بعقاقير عسكرية محدودة الفعالية، وتدابير أمنية قاصرة. باستثناء حالة الأسير في صيدا، التي انتهت من عبرا، ولم ينته أتباعها من لبنان، بأسماء مستعارة وأشكال متفجرة.

سادساً: اختتم العام الماضي، بالأمس، يومياته المأزومة، باستعراض قوى جديد. عادت السعودية إلى لبنان من البوابة الرئاسية في بعبدا. لتضخ في الجيش عتاداً فرنسياً، ولتضخ في السياسة ثقلاً وازناً يمكن اختصاره بـ «أنا هنا»، وإيران ليست وحيدة في لبنان.

في ظل الاحتدام الاقليمي الكبير والتسعير العسكري في سوريا، وفي وقت انبرت فيه السعودية لقيادة محور القتال في جبهات الحرب حول دمشق، ومحور التصدي لإيران، وتحديداً بعد الاتفاق النووي، وفي وقت بدأت التهم تطاول السعودية في دفع تنظيمات في لبنان وقيادتها، تقابلها اتهامات بارتكاب اغتيالات تقف خلفها تنظيمات مسلمة لبنانية مدعومة ايرانياً، في هذه الأجواء، جاءت «مكرمة» السعودية، لتصب الكثير من الشكوك حول مآلات الصراع الداخلي.

وحدهم اللبنانيون اليائسون، يعرفون معنى أن يكون لهم وطن يخسرونه كل يوم، بلا بديل. العراق صار وطناً للعنف والقتل. سوريا وطن للتدمير والقتل. ولبنان قد يقلّد الاثنين…

هذا هو لبنان… إنه ينعطف إلى نهاية، لا يمكن توقع بداية ما بعدها. مشكلته، أنه كان بلداً صغيراً وشعبه يفيض دائماً عن حدوده.

السابق
توحيد سورية والعراق ولبنان
التالي
لعبة خطيرة