السيّد عبد الحسين الأمين: صادق الزعماء وعرّض بهم

عبد الحسين الامين
السيد عبد الحسين محمود الأمين سليل الحوزات العاملية ترك بصمة في الشعر الفكاهي، صادق الزعماء وعرّض بهم. عايش مداهمات العثمانيين والفرنسيين وحرقوا كتبه وبيته مراراً. ما عاشر أو جالس إلا وكان الشعر الساخر جليساً وأنيساً. وهو دمج بين الغزل والهزل والسياسة والنزعة الحكميّة.

«عامليات» الدماثة والشعر الفكاهي كانت عرضت لتجارب الشيخ نجيب مروة ومزاج موسى الزين شرارة الشعري، ونوادر الشعر الساخر للسيد جعفر الأمين.

وقطوف السيد محمد باقر إبراهيم الدواني، هنا مع دماثة السيد عبد الحسين محمود الأمين الذي دمج بين الوجدانيات والسياسة والحياة اليومية والحكمة، في حلقة هي الخامسة.

ولد في النجف عام 1883 وتوفي في بلدته شقراء عن عمر قصير عام 1936. هو ابن العلامة المرجع السيد علي محمود الأمين مؤسس مدرسة شقراء الدينية نهاية القرن التاسع عشر، التي أنهت هي وشقيقاتها من المدارس والحوزات العلمية التي أسسها القادمون من النجف الأشرف زمن القحط والانحطاط الفكري والأدبي في جبل عامل والذي طبع المنطقة لقرون خلت. ومن هذه المدارس: مدرسة حناويه «الشيخ محمد عز الدين» وجباع «الشيخ عبد الله نعمة» وبنت جبيل «الشيخ موسى شرارة» والنبطية «السيد محمد إبراهيم».

وقد عنت هذه المدارس بتخريج المئات بينهم العشرات من الأفذاذ الذين تولوا ريادة النهضة العلمية والأدبية الحديثة وهم الشعراء والأدباء والمؤرخون: محمد علي الحوماني، عبد الرؤوف الأمين «فتى الجبل»، الشيخ أحمد عارف الزين مؤسس مجلة العرفان النهضوية، الشيخ سليمان ظاهر، الأستاذ الشيخ أحمد رضا، محمد جابر آل صفا الأستاذ علي إبراهيم، والشيخ علي الزين ومحمد كامل شعيب «الأستاذ العاملي» وغيرهم من أساطين الأدب والشعر ممن تركوا بصمات خالدة في دنيا الفكر على الصعيدين الوطني خاصة والعربي عامة.

شاعرنا الأديب السيد عبد الحسين محمود الأمين الذي شب في كنف والده ونهل من معينه علماً وأدباً وتمرساً في فنون الشعر. فقد قال الشعر مبكراً على عادة أقرانه في ذلك الزمان إذ كان قرض الشعر ضرورياً، وتعلم فنه أمراً بديهياً لمن كان ابن تلك البيئة المجبولة بحب المعرفة الدينية والدنيوية. وقد تميّز شعره بالرشاقة والحلاوة والطرافة ساعده في ذلك روحه المرحة التي لم تنل من قوّة شخصه ومكانته الاجتماعية والسياسية، فقد عيّن قاضي صلح عام 1925 ثم غدا بعد ذلك الرفيق والصديق لزعيم البلاد آنذاك كامل الأسعد ومستشاره النصوح وذلك في أصعب الظروف التي كانت تمر بها البلاد أيام الحكمين التركي والفرنسي وما صاحبها من مآسي الحرب الأولى وويلات جرت على جبل عامل خاصة أثناء حملة نيجر على الجنوب اللبناني عام 1920 حيث اقتحم الفرنسيون داره ونهبوها وعبثوا بمكتبته.

جاء في مجلة العرفان تحت عنوان «للتاريخ» من مذكرات الشيخ أحمد رضا عضو المجمع العلمي العربي مجلد 33 عام 1366هـ 1946م – قوله:

يوم الأربعاء في 5 ج2 1338 و25 شباط 1920

ورد يوم الاثنين أمر من حاكم صيدا العسكري بأن تستعد النبطية وما حولها لإستقبال الجنرال غورو الساعة التاسعة صباحاً فنشر مدير النبطية الأمر وأبلغه إلى مختاري القرى بطريقة رسمية وأخذ تواقيعهم بالتبليغ ولما كان هذا اليوم اجتمع الجند الفرنسي وكان عدده نحو المائة مشاة وسبعة وثلاثين فارساً. وحضر الاجتماع كامل بك الأسعد من الطيبة وحسين بك الدرويش من جباع والحاج محمد سعيد بزي والسيد عبد الحسين محمود الأمين من أعيان بلاد بشارة واستدعى كامل بك الشيخ عبد الحسين صادق واستدعانا معه ولكن الشيخ أبى أن يكون في الاستقبال بل يقابله في مستقره وكنا معه وكذلك كان ولم يقف كامل بك والأعيان مع العساكر الواقفين للاستقبال بل انحاز إلى دكان في السوق مع بعض الأعيان وفيهم السيد عبد الحسين محمود الأمين وفي هذه الأثناء التفت كامل بك إلى السيد عبد الحسين وقال له مداعباً: إني نظمت الآن تاريخاً لزيارة الجنرال فتقدم عند المقابلة واقرأه باسمي وهذا هو:

ويوم كله ظلم            نأى عن أفقه النور

به للنحس تاريخ         كيوم جاءهم غورو

فقال له السيد عبد الحسين أنت تقدمني إليه بهذا التاريخ وأنا أتلوه.

فضحك الجميع. وشرَّ البلية ما يضحك. (انتهى).

أما طرائف شعره فنحاول أن ننتقي منها وأكثرها مراسلات تصحبها حوادث طريفة فحين نزل ضيفاً عليه مصطفى المخزومي قائمقام مرجعيون آنذاك وفي صباح اليوم الثاني ارتحل عنه إلى (ميس الجبل) بعد أن تناول عند السيد شيئاً من الجبن وفي (ميس) أصيب بإسهال فأرسل إلى شقراء هذه الأبيات:

نزلنا بشقرا منزلاً عند سيد                       أفاض علينا الخير من كل جانب

ولكن لسوء الحظ كان وعاؤه                     من السم مملوءاً بكل العاطب

فرحنا بإسهال وقيء كأنما                        تقطع أحشانا بحد القواضب

فقل للذي يبغي زيارة شقرة                      تنحى وحذّر صاحباً بعد صاحب

فشطرها السيد – وأعادها إليه تلك السهام أصلب عوداً وأقوى شكيمة بقوله:

(نزلنا بشقرا منزلاً عند سيد)                     نمته الكرام الغر من آل غالب

ولما أنخنا رحلنا برحابه                         (أفاض علينا الخير من كل جانب)

(ولكن لسوء الحظ كان وعاؤه)                         ومعدتنا شتان عند التجاوب

فهذي بهاداء وذاك كأنه                          (من السم مملوءاً بكل المعاطب)

(فرحنا بإسهال وقيء كأنما)                      حسونا من الصهباء في دير راهب

من الجبن بل جبناً حسبنا بأنه                    (تقطع أحشانا بحد القواضب)

(فقل للذي يبغي زيارة شقرة)                    مغذاً ليرمي أهلها بالمعائب

حنانيك في أبيات آل محمد                       (تنحى وحذر صاحباً بعد صاحب)

ومن طرائف رسائله قصيدة بعث بها لأحد الجباة بعد أن عزل من وظيفته، وكان هذا الجابي يشدد على الرعية فيحجز الممتلكات على المتأخرين عن دفع الضرائب للدولة. وهي قصيدة طويلة نقتطف بعض أبياتها:

تتلقاك زمرة المفلسينا                            باحتفال تراه دنياً ودينا

كنت فينا للجوع عضواً نشيطاً                    ورسولاً إلى العراة أميناً

كم قلبت الطربوش ظهراً لبطن                         كلما حاف أو تغير لونا

ولقبض المعاش قدماً ضحكتم                     ولضيق المعاش قدما بكينا

فلذا يا أبا بهيج ابتهجنا                           وضحكنا لعزلكم ملء فينا!

والسيد عبد الحسين كان شاعراً عند كل مناسبة وها هو يداعب أحد الأطباء الذي لم يستطع بدوائه إبلاله من مرضه فأرسل إليه هذه الأبيات:

دواك ما فيه غله                           بل زاد في الطين بلّه!

كما عالم فاه يوماً                          وفوه أثبت جهله

وكم طبيب تناءَى                          صيتاً لأول وهله

يدري من الطب معنى                           ألفاظه هات عمله

قد جاء للناس فرداً                               ليقتل الناس جمله!

 

وعندما عُيّن نواب للجنوب بواسطة المفوض السامي الفرنسي لم يمنعه ذلك وكان جلّهم من أصدقائه أن يعرّض بهم ممازحاً ومورياً بين الغزل والسياسة:

يناديك المحب فلا تجيبي                         كأنك بعص نواب الجنوب!

وقال في أحد الاجتماعات للعلماء والزعماء في جبل عامل وكان قد أيقن من تقاعسهم عن القيام بأحد المشاريع الذي فشل لاحقاً:

أرى العلماء والزعماء طرّاً                      قد اجتمعوا لما لا خير فيه

«كلا الأخوين (فعّال) ولكن                       شهاب الدين (أفعل) من أخيه»

وقال السيد عبد الحسين وقد طلب منه رئيس محكمة تبنين ورئيس بلديتها خروفاً ليطبخاه (لبن أمه) فأرسل الخروف وفي عنقه هذه الأبيات على سبيل المداعبة.

لأي الرئيسين يا حمل                            وأنت لتبنين ترتحل

أتختار حاكم صلح بها                           فترنو وترنو بك المقل

أم البلدية تختارها                         وعنك رئاستها تسأل

كلا المنزلين محط البلا                          ء عليك بأيهما تنزل

وكل يسل عليك المدى                           ويأكل منك ولا تأكل

سيثنيك ثانيهما للردى                            ويقطع أوداجك الأول

إلى أين تمضي وهذا المعـ                      ين وذا الأقحوان وذا النفل

وهذي أمامك أم رؤوم                            تدافع عنك ولا تغفل

تغذيت أطيب ألبانها                              فكيف يضمكما المرجل

تحاذر ذئب الفلاة عليـ                          ـك وما علمت أنه (رجل)

أمحكمة الصلح هل تشعرين                      بظلمك والظلم مستفحل!

وله ملغِّزاً هذين البيتين ورداً في مجلة العرفان عدد أيار 1925:

ومهفهف الأعطاف جاد بنفسه                    لميتم أمسى يجود بنفسه

قالوا سيشفيه الحبيب بقبلة                        فأجاب إني قانع في عكسه

وقال يمازح صديقيه النائب علي بزي والشاعر الفذ الذي سبق الحديث عنه موسى الزين شرارة وكانا قد سبقاه لأحد الاجتماعات فقال زجلاً:

يا نفسي لا تعتزّي                               آلامي بتكفيني

«الهرهتلر» علي بزي                           وموسى الزين موسوليني!!

وعندما وصل هذان البيتان إلى مسمعهما قال أحدهما للآخر «هيك بدكن أكلناها من أبو علي» وكان السيد عبد الحسين يكنّى بأبي علي، اسم نجله الأكبر.

وإذا كان لا بدّ من ختام فمع هذين البيتين الجادّين وهما حصيلة، تجارب عمر من ذرف على الخمسين ورحل على عجل تاركاً لوعة وانكساراً لدى ذويه ومحبيه:

لقد جربتهن وجربتني                            حوادث كم غصصت لها بريقي

فلم أر يوم رفقٍ من رفيق                        ولم أر يوم صدق من صديقي

السابق
مش رمانة قلوب مليانة
التالي
اعادة فتح طريق عكار حلبا بعد قطعها