أعرف لماذا قتلوني

براءة القتيل تضاعف متعة القاتل. تؤكد قدرته على اجتراح المفاجآت. وأن بنك الأهداف ثري ومتنوع. وأن اليد طويلة وقادرة. وأن من يشرب نهراً لن يغص بساقية. وأن لا حق لأحد في اقتناص لحظة طمأنينة. وأن ذريعة أن لا دم على يديك لا تعوق سفك دمك. وأن عدم مشاركتك في القتل لا يحصنك ضد من يريدونك قتيلاً.

نقول القاتل ونعني كل مرتكب يسبح في دم الأبرياء. سواء استهدف منطقة أو شخصاً. حياً في الضاحية الجنوبية أو مسجداً في طرابلس. نقصد بالقاتل كل من يؤمن بشطب الآخر. كل من يؤمن بالإلغاء الجسدي. ولا نقبل من أي قاتل عذراً يسوغ به جريمته. ولا لافتة يستبيح تحتها دم الآخرين. ولا مطبخ تضليل مهمته حماية المرتكب وتضليل التحقيق وخداع الناس.

براءة القتيل تضاعف متعة القاتل. وهول الجريمة. ووحشية المرتكب. جريمة لا يمكن اعتبارها عقاباً ولا رداً. جريمة خالصة ارتكبت عن سابق تصور وتصميم. لإشاعة القلق. وتعميم الذعر. وكسر الإرادات. وإشعار الناس أن لا سقف يحميهم. وأن من حق القاتل أن يصطاد من يشاء وفي أي مكان يشاء. إنها إعلان لسلطة القاتل بلا رادع أو منازع.

أعرف الشهيد محمد شطح عبر إطلالاته الصحافية والتلفزيونية. أعرفه عبر ما نقل عن ممارساته سفيراً ووزيراً ومستشاراً.

كان يبدو غريباً على الشاشات. لا أثر في قاموسه للمتفجرات أو الخناجر. لا أثر للسكاكين التي تفتح جروح الطوائف والمذاهب. لم أسمعه يدعو إلى القتل أو يبرره وهناك من يفعل. ولم أسمعه يحض على الكراهية والطلاق وهناك من يبرع. لم أسمعه ينذر أو يهدد أو يتوعد. لم أسمعه يصفق لقتل أو قاتل. لم يبرر جريمة ولم يحاول تغطية مذبحة بالأكاذيب. كان هادئاً وراقياً. وكان صلباً.

كان غريباً على الشاشات. يشبه المواطن العادي الذي يستمع إليه. كان يخاطب عقل المشاهد. انتماؤه إلى معسكر لم يدفعه إلى تخوين الآخرين. لم يرد إرهابهم. كان يحاول إقناعهم. وكان يستخدم مفردات الجسور لا القطيعة. واللقاء لا الطلاق. وكان يعتقد أن لا خلاص للبنانيين إلا بلقائهم في رحاب الدولة والمؤسسات. وأن من واجب كل لبناني الاستماع إلى الآخر ومحاولة ترتيب موعد معه في منتصف الطريق.

في البلد المجنون اعتصم محمد شطح بعقلانية هادئة وباردة. لم تجرفه الطبول الموتورة ولا صيحات الثأر. وكأنه كان واثقاً أن اللبنانيين سيعودون ذات ساعة معترفين باستحالة تحويل لبنان إلى ما يناقض سر وجوده واستمراره.

وبهذا الهدوء كان يقرأ التطورات الإقليمية والدولية. ولم يخف قلقه من ارتدادات الحريق السوري. من تصدع حدود الدول وتصدع تجارب التعايش. وشيوع منطق الحد الأقصى. ونزعات فرض الزي الموحد.

سيكتب الكثير عن اغتيال محمد شطح. عن الرسائل المتضمنة في الجريمة. عن علاقتها بالمحكمة الدولية. ومحاولات تشكيل الحكومة. والاستحقاق الرئاسي. و «جنيف 2» السوري. وعن الحرب الأهلية المحلية والإقليمية في سورية. عن التهاب الفتنة المذهبية في الإقليم. عن اندفاع العلاقات السنية – الشيعية في لبنان نحو الهاوية. وأن الرسالة موجهة إلى سعد الحريري. وفؤاد السنيورة. وتيار المستقبل. و14 آذار. أخطر من ذلك كله هو الاعتقاد السائد أن الجريمة استهدفت الاعتدال

حين استهدفت المعتدل.

يستقبل وسام الحسن محمد شطح بعناق طويل. يمازحه. أنا لا أستغرب أن يقتلوني. تلقيت ضربات ووجهت ضربات. ملف الاتصالات والشبكات والتفجيرات. قصة اغتيالك تحيرني. ويجيب شطح محتفظاً بهدوئه: ليس بسيطاً أن تكون في هذا الزمان سيادياً ومعتدلاً وعنيداً. وليس بسيطاً أن تكون سنياً معتدلاً وترفع شعار «لبنان أولاً». وأن تجاهر بصفاء وطنيتك فوق بحر الظلام والارتكابات والجنازات. أنا أيضاً أعرف لماذا قتلوني.

السابق
الديكتاتورية الأخيرة في أوروبا
التالي
القتال في الدول النامية والفقيرة فحسب