ميقاتي يشرّع تمويل المحكمة من الموازنة!

بعد سنوات على ممانعة قوى 8 آذار تمويل المحكمة الدولية وتخصيصها باعتمادات من ضمن موازنة وزارة العدل على أساس سند قانوني سليم، أنهى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي كل هذا الجدال بواسطة قرار من ديوان المحاسبة يكرّس تمويل المحكمة من الخزينة على أساس القاعدة الاثني عشرية من ضمن اعتمادات رئاسة الحكومة

عَبَرَ الرئيس ميقاتي كل الطرق المؤدية إلى تمويل المحكمة الدولية. في البدء، أُجهضت مساعيه سياسياً في مجلس الوزراء، فابتدع طرقاً التفافية ومواربة للحصول على مبتغاه؛ في المرّة الأولى، اتفق مع جمعية مصارف لبنان على التبرع بالتمويل.
وفي المرّة الثانية، اكتشف ميقاتي أن مجلس الوزراء لن يوافق على إمرار تمويل المحكمة وتكريسه من ضمن نفقات الدولة، فلجأ إلى الهيئة العليا للإغاثة التي سدّدت حصّة لبنان في المحكمة (49% من نفقاتها)، رغم أن هذه الهيئة التابعة لرئاسة الحكومة مباشرة هي في صلب المؤسسات الرسمية.
أما الثالثة فكانت ثابتة. أمس تمكّن ميقاتي من «قوننة» تسديد حصّة لبنان من المحكمة الدولية والمقدّرة بنسبة 49% من مجمل كلفتها، من خلال صفقة سياسية نفّذها ديوان المحاسبة بالاستناد إلى مرسوم استثنائي مخالف للقانون. كيف حصل ذلك؟ هل هو إنفاق قانوني؟ كيف سكتت قوى 8 آذار عن هذا الأمر الذي مانعت الاعتراف به طويلاً؟
في 14 كانون الأول 2013 صدر المرسوم 10927 وقد وقّعه رئيس الجمهورية ميشال سليمان وميقاتي ووزير المال محمد الصفدي. وقد استند المرسوم إلى قوانين لا صلة له بها مثل القانون 238 الذي يفتح اعتماداً إضافياً بقيمة 9.248 مليارات ليرة لتغطية إنفاق عام 2012. وهذا القانون يمثّل، بشكل ما، بديلاً من إقرار الموازنة العامة، لأنه يغطي الفرق الناتج من نموّ الإنفاق بين آخر موازنة مقرّة في عام 2005 وبين موازنة 2012. هذا يعني أنه حين أقرّ هذا القانون لم يكن تمويل المحكمة الدولية مدرجاً ضمن بنوده، بل أضيف أمس إليه.
كذلك، بُني المرسوم المذكور على «مقتضيات المصلحة العامة، واقتراح رئيس مجلس الوزراء ووزير المال». ثم خُتمت القوانين ذات الصلة بالإشارة إلى: «تعذّر انعقاد مجلس الوزراء بسبب اعتبار الحكومة مستقيلة، واستناداً إلى مبدأ استمرارية العمل بانتظام واطراد في مرفق عام، وبناء على الموافقة الاستثنائية المعطاة بموجب كتاب الأمانة العامة لمجلس الوزراء رقم 2493/ م ص…».
بالاستناد إلى هذه الكلمات القليلة تقرّر نقل مبلغ «58 مليار ليرة من احتياط الموازنة إلى بند اشتراكات رئاسة مجلس الوزراء في مؤسسات ومنظمات إقليمية ودولية لتسديد مساهمة الحكومة اللبنانية…».
عندما صدر المرسوم أُحيل على وزارة المال حيث أحاله، تلقائياً، مراقب عقد النفقات على ديوان المحاسبة، لأن أي إنفاق يزيد على 100 مليون ليرة يستوجب موافقة الديوان. هناك «نام» المرسوم لمدّة 8 أيام. كانت هذه الفترة أكثر من كافية لإنضاج حلّ سياسي لهذه المسألة، لكن مسألة الإخراج القانوني كانت من ابتكار لجنة في الديوان مؤلفة من ثلاثة قضاة هم رئيس الديوان عوني رمضان، والمستشاران رمزي نهرا ولينا حايك. المستشار الأول محسوب على التيار الوطني الحرّ، والثانية «كتائبية» الهوى.
تمحور النقاش في اللجنة المذكورة حول التزام لبنان بالمحكمة الدولية ومدى قانونية المستندات المقدّمة من الإدارة المعنية لجهة فتح الاعتمادات، وتنسيب الأعمال المتصلة بالموافقات المسبقة. وبحسب محضر الاجتماع، فإن رمضان ونهرا كانا موافقين على قانونية المعاملة الواردة من وزارة المال لجهة المرسوم الاستثنائي وتنسيب النفقات وغيرها من التفاصيل القانونية والمالية. غير أن حايك أبدت معارضة شديدة لهذا الأمر، معتبرة أنه ملف «يدخل في السياسة ولا يمكن أن أوافق أو أعترض على مثل هذا الأمر الذي لا مكان له في الديوان، بل يحتاج إقراره إلى قرار سياسي» وفق ما نُقل عنها.
بنتيجة قرار ديوان المحاسبة، أصبحت المحكمة الدولية مكرّسة قانوناً بموجب قرار صادر عن أعلى جهاز رقابي مالي في لبنان. فبهذه الطريقة، يكون الديوان قد اعترف رسمياً بأن قانون الإنفاق الإضافي لتغطية 9240 مليار ليرة يضمّ تمويل المحكمة الدولية، علماً بأن هذه المبالغ كانت مخصصة لتمويل الفرق في الرواتب والأجور والنفقات الطارئة بين موازنة 2005 ومشروع موازنة 2012. كذلك، يكون الديوان قد اعترف رسمياً بأن المرسوم 10927 حلّ بدلاً من المراسيم التي لم يتمكن مجلس الوزراء من إقرارها للاعتراف بالمحكمة الدولية.
في ظل هذا «الإذعان السياسي» للمحكمة الدولية، تبدو الأسئلة القانونية أكثر وضوحاً من قرار تمويل المحكمة؛ فهل يُعدّ السند القانوني لإصدار مراسيم استثنائية في عهد حكومة تصريف الأعمال هي مراسيم قانونية ودستورية؟ هل صحيح أن ديوان المحاسبة كان مغمض العينين قانونياً؟
الإجابة عن هذا السؤال جاءت على لسان أحد القانونيين المطلعين على ملف القضية الذي أشار إلى أن «تنسيب تمويل المحكمة الدولية مخالف للقانون». السبب هو أن كل عمل ينسّب إلى الجهة الملائمة، فإذا كان الأمر اتفاقية قضائية مثل المحكمة الدولية، فإن تنسيب الاعتمادات يجب أن يكون من ضمن موازنة وزارة العدل، وليس من ضمن موازنة رئاسة الحكومة. كذلك، يشير إلى أن تحريك بند «احتياط الموازنة» هو من صلاحية مجلس الوزراء مجتمعاً، وبالتالي فإن المرسوم الاستثنائي لا يمكن أن يستعمل هذه الصلاحية، علماً بأنه لو أراد مجلس الوزراء أن يقرّ هذا التمويل في وقت سابق، فقد كان أمامه متسعاً من الوقت لإقراره، ولما كان الأمر محور خلاف وانقسام سياسي.
اليوم، بعد قرار ديوان المحاسبة، أصبح تسديد لبنان لحصّته المفترضة في المحكمة الدولية مسألة نظامية تلقائية سنوياً، من خلال موازنة رئاسة الحكومة. ما قام به ميقاتي هو عمل لم تقدم عليه حكومتا فؤاد السنيورة وسعد الحريري، بل أبعد من ذلك بكثير.
أما أبرز ما هو لافت في التمويل، فهو أنه بلغ 58 مليار ليرة فيما كان يبلغ، بحسب قانون برنامج الموازنة العام لعام 2008 نحو 22 مليار ليرة في 2008، 29.5 مليار ليرة في عام 2009، و29.5 مليار ليرة في عام 2010. فلماذا ازدادت كلفة التمويل 96.6% بين 2010 و2013؟ ولماذا يدفع اللبنانيون هذه المبالغ؟

السابق
فرعون: عدد كبير من مشاكلنا مرتبط بالأزمة السورية
التالي
قنابل الحاويات تقتل المئات