مطر: الخطر يداهم الاستحقاقات الدستورية ومدعوون لإنقاذ لبنان

المطران بولس مطر

ألقى المطران مطر عظة العيد، جاء فيها: “في هذا العيد المبارك، يسأل البعض عن نية حسنة، كيف نستطيع أن نعيد والحزن يملأ القلوب والساحات؟ وكيف نتواعد مع البهجة والفرح، والظروف التي تمر بها البلاد والمنطقة تمسح الوجود بلون أسود؟ كيف ننعم في بيوتنا بالدفء وحرارة التلاقي فيما بعض الأطفال من حولنا يموتون تجلدا في الصقيع ويقضي البعض الأخر منهم حريقا في خيم تمزقها الريح من الخارج وتلتهمها من الداخل نيران مشتعلة دون استئذان؟ وكيف يصوغ الناس أحدهم للآخر أماني طيبة فيما هم يرفضون بعضهم بعضا حتى ولو كانوا من الدين الواحد والبلد الواحد، وفيما تتعرض أوطانهم إلى عملية تفتيت مذهبي وطائفي وإلى حالة عداء مجاني لم نعرف لها مثيلا من ذي قبل؟”.

أضاف: “على هذا السؤال، يأتي جواب بسيط نابع من إيماننا بالرب ومن افتقاده لنا وستره إيانا بظل رحمته، وهو أننا بحاجة أكبر إلى هذا العيد، ومن حيث أننا نتعرض لمثل هذه المصائب، ولأن شعورا عارما ينتابنا بأن الشرور التي ابتلينا بها باتت أكبر منا، ولأن عجز الإنسانية عن استعادتها طريق الحب والسلام، ليس له سبيل سوى تدخل السماء، لتعيد الأمور إلى نصابها، وتفتح للناس طريقا يقودهم من الموت إلى الحياة، بعد أن عكسوا السير الذي دهورهم من الحياة إلى الموت”.

وتابع: “الحقيقة، أن الحالة التي نعرفها اليوم في وطننا وفي منطقتنا والعالم ليست بأمر جديد يطلعه علينا التاريخ، بل هي العتاقة بعينها، لأن الخطيئة هي التي ما زالت منذ حلولها في الأرض تنتج البضاعة نفسها من حقد وقتل وفناء. أما الجديد الذي يحمل إلينا أمل الشفاء وقوة التغيير فلن يكون سوى بقوة رسول السلام الآتي إلينا ربا ومنقذا، هاديا ومفتقدا. فميلاد يسوع هو شروق شمس النعمة والبر على العالم، لتدخل الدفء إلى القلوب الباردة الكسيرة. وهو الذي زرع في الأرض بذارا لحياة جديدة أساسها المحبة التي لا تأسيس للتاريخ إلا بها. كذلك عيد الميلاد، وفي هذه الظروف بالذات، فهو يشكل فرصة لنا لنستعيد قوة الرجاء بالخلاص الإلهي ولنجدد تمسكنا بالابن الوحيد الذي أتى إلينا ليمد لنا يمين قدرته، وليصلح أمورنا ويشملنا بعفوه ورضاه”.

ودعا مطر الى ان “ندخل إلى العيد بالفرح والشكر، وفي سجودنا الخاشع أمام طفل المغارة، فلنذكر الوعود التي أطلقها الله لنا على ألسنة الأنبياء منذ القديم. ومن أهمهم أشعيا النبي الذي قال عن مجيء المسيح هذا القول الجميل: “الشعب السالك في الظلمة أبصر نورا عظيما والجالسون في بقعة الموت وظلاله أشرق عليهم نور. منحتهم يا رب ابتهاجا على ابتهاج وزدتهم فرحا على فرح” (أشعيا 9، 1-2). ولكي تتضح مهمة المسيح الآتي، أعطي أشعيا بالوحي أن يتنبأ ويقول على لسانه: “روح الرب علي، لأن الرب مسحني له، وأرسلني لأبشر المساكين وأجبر منكسري القلوب، ولأنادي للمسجونين بالحرية وللمأسورين بتخلية سبيلهم”. ولكي يزيد في سر المسيح وضوحا، أطلق أشعيا أيضا هذه النبوءة قائلا: “ها إن العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل أي الرب معنا”.

وقال: “نعم أيها الأخوة، يسوع هو الرب معنا. وهذه النعمة تكفينا لنحيا بالرب ثقة مطلقة. ولكي يعطي علامة عن تحقيق هذا الخلاص وعن عظيم نتائجه ينهي أشعيا نبوءته ليقول: “سيحكم الرب بين الأمم ويقضي لشعوب كثيرين فيصنعون سيوفهم سككا ورماحهم مناجل فلا ترفع أيد على أيد سيفا ولا يتعلمون الحرب من بعد”.

اضاف: “في ضوء هذه النبوءات نتأمل أمام الطفل الإلهي في يوم ميلاده المجيد، فنفرح من جديد لما يرويه الإنجيل المقدس عن رعاة بيت لحم الودعاء، أولئك الذين يمثلون القلوب النقية، والذين سمعوا كلام الملاك يبشرهم بالولادة العجيبة، والذين دهشوا لأنشودة جوق من الملائكة أطلقوها فوق رؤوسهم قائلين: “المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لأهل رضاه”. لكن هذا الفرح الذي يدخله الميلاد إلى قلوبنا، والرجاء الذي يوقظه في حياتنا التعبة وفي نفوسنا الحائرة، لن يتحولا إلى فرص للنجاة إلا بشرط جوهري أساس، وهو أن نقبل الله في حياتنا وأن نعمل بمشيئته فعلا، وإلا خسرنا من جديد كل شيء. وإن زدنا تأملا بمعنى أنشودة الملائكة في كل أبعادها ومعانيها، فسندرك أن تمجيد الله في العلى، أي الاعتراف به إلها وربا للجميع هو الذي ينزل في الأرض سلاما ويحول الرجاء به إلى حقيقة. أما إذا لم نقبل مشيئة الله فسيبقى هذا السلام أمنية في البال لا تمت إلى الواقع بصلة. ولا عجب في ذلك فإن لم تعترف العائلة البشرية بخالقها الواحد، فسوف تبقى مبددة ومتناحرة إلى الأبد. أما إذا آمنت به وقبلت بمشيئته فإن لها منه السلام والحب والرضى والرحمة الكبيرة”.

وتابع: “لذا يصبح لزاما علينا في هذا العيد الفضيل أن نطرح على ذواتنا وخصوصا في هذا الشرق المعذب وفي وطننا الحبيب لبنان، هذا السؤال الذي يجب أن يحير أفكارنا. فلئن كنا في هذه المنطقة شعوبا تذكر الله أكثر من أي منطقة أخرى من العالم، فلماذا نبقى ضحية الحرب والتقتيل والتشريد إلى هذا الحد؟ ولماذا لا ينزل علينا من عند الله الذي نذكره كل هذا الذكر، سلام عظيم ينقذ نفوسنا؟ قد يكون الجواب عن هذه الأحجية أننا نذكر مع الأسف نفوسنا أكثر مما نذكر الله. فنفوسنا هي الأصنام الجديدة التي تفرض عبادتها علينا وعلى الآخرين. وإلا فكيف يطلع بيدنا أن نعمل بعيال الله تفريقا ما بعده تفريق، وندخل إلى القلوب عداوات لا تمحى ونستسلم لتمزيق المنطقة إلى مذاهب تتناحر حتى لا يبقى من الود بينها أي شيء. فهل الله هو الآمر بكل هذه المخازي؟ وهل نحن هكذا لمشيئته منصاعون؟ أوقفوا القتل بربكم أيها المؤمنون واتقوا الله في عباده واجتمعوا للتحاور فيما بينكم في أي مكان، غربا وشرقا، شرط أن يكون سقف الله هو الواقي لرؤوسكم وإرادة الله هي الحكم فيما أنتم عليه مختلفون”.

وقال: “أما عندنا في لبنان فإننا نحيا مرحلة من اللامسؤولية تجاه وطننا وتجاه أنفسنا لم نعهد لها مثيلا من ذي قبل. فقد انشطرت البلاد إلى فئتين لا تريد أي منها أن تخاطب الأخرى ولا أن تتفاهم معها على أي شيء. وهو أمر مستهجن ومرفوض. هذا فيما الوطن الذي دعي رسالة للشرق والغرب بالحرية والديموقراطية والعيش المشترك من قبل حبر أعظم قديس، يكاد يفرغ من كل شيء إلا من الفراغ. فالخطر يداهم استحقاقاته الدستورية كلها بما فيها انتخاب رئيس للجمهورية، ولم نلحظ بعد تحسسا كافيا لهذا الخطر المداهم بل شروطا توضع من هنا ومن هنا، يتمسكون بها ولو خربت الدنيا على يدهم خرابا أكيدا”.

وسأل: “هل يعرف القيمون عندنا أنهم إذا سعى أحدهم إلى الانتصار على الآخر بالقوة والإكراه، فإن انتصاره المشؤوم هذا لن يكون إلا على أشلاء لبنان؟ فيرتد إذ ذاك الانتصار الموهوم على صاحبه شقاء وخيبة. لا بل إن خسارة لبنان لذاته ستكون وبالا على المنطقة العربية والإسلامية بأسرها وعلى مساعيها في إيجاد صيغة للتعايش المرغوبة بين أبنائها على صورة صيغة التعايش المتجسد في لبنان. لذلك نحن مدعوون إلى إنقاذ لبنان لا لنحيا بمعزل ولا بمنأى عن الآخرين في المنطقة المحيطة، بل لنكون مفيدين لأبنائها بما عندنا من اختبار إنساني لا نظير له ولا بديل منه. هذا إذا أردنا رفع حضارة العرب نحو الأسمى. إن لبنان هو رسالة حرية وسلام بحد ذاته وهو رسالة محبة ومصالحة بين الناس بروح تستطيع أن تقوى وتثبت بوهج الميلاد المجيد، وبنعمة المولود صاحب العيد، له المجد إلى الأبد”.

وختم مطر: “تصالحوا مع صاحب العيد أيها الأخوة الأحباء، تتصالحون مع أنفسكم وبعضكم مع بعض. وارحموا فقراءكم ومهجريكم، أولئك الذين صار ابن الله من أجلهم فقيرا مولودا في مزود، ومهجرا على شاكلتهم إلى مصر من وجه مهدديه. لينوا قلوبكم بالحب المتجلي في المسيح ابن مريم. وليدخل ميلاده في نفوسكم رجاء جديدا وقوة جديدة لتعبروا من زمنكم الحاضر الرديء إلى أزمان خلاصية كثيرة الفرح، وليعد الله عليكم هذا العيد أعيادا عديدة، مغدقا على أشخاصكم وعلى عيالكم وأوطانكم فيضا سخيا من نعمه وبركاته”.

السابق
هل بدأ حزب الله يخسر
التالي
توزيع حلوى في صيدا