بيبي المتنكر

أجل، كان ذلك محرجا. إن المترجم بلغة الاشارة تمسنكا جنتاجيا الذي وقف في جدية شديدة وحرك يديه ووجهه وكأنه يترجم كلام الزعماء والقادة بلغة الاشارة كلمة كلمة في وقت مراسم جنازة نلسون مانديلا، أحدث انطباعا جديا لأنه كيف يمكن أصلا أن نشك أنه في هذا المقام الدولي خصوصا والعيون دامعة والخطب مؤثرة والجمهور الافريقي في حداد، وهو يرقص ويغني، يخطر ببال أحد أن المترجم لا يقصد حقا ما يشير به، وأن ما يشير به بعيد بعدا كبيرا عما يسمعه، وأن ما يسمعه يُعد في نظره كلام ملائكة أحياء، كما بيّن في مقابلة مع وكالة ‘إي.بي’.
‘لكن ما الذي حدث في الحقيقة لـ ‘سيد الخطابة بلغة الاشارة’؟ تبنى في الحاصل العام سياسة قديمة معروفة تقول: ‘ليس من المهم ما يقوله الأغيار بل المهم ما نفعله نحن’.
من المؤكد أن هذه الترجمة لا يفترض أن تثير التعجب في اسرائيل فضلا عن الحرج. حتى إننا أكثر اقتصادا في مجال الترجمة. فبدل أن نأتي بمترجم خاص فان رئيس الوزراء هو ايضا المتحدث والمترجم بلغة الاشارة. فحينما أعلن نتنياهو مثلا أنه يتبنى مبدأ الدولتين للشعبين أشارت يداه ولسانه بحركة اختناق بدل اشارة باصبعين وبحركة يد الى الكتف اليسرى مع الاشارة بالاصابع الى فلسطين. وحينما فرض الاتحاد الاوروبي عقوبات على منتجات من المستوطنات بيّن نتنياهو بصوته أن ‘العقوبات قد تضر بالتفاوض السياسي مع الفلسطينيين’. لكن المترجم نتنياهو أظهر سيطرة مدهشة على لغة الاشارة حينما مد اليد اليسرى الى الأمام ووضع يده اليمنى عليها في تربيت. وأضاف رفع الاصبع الوسطى لأجل الجمهور المحلي، لمن صعب عليه أن يفهم تلك الاشارة العامة.
وفي شؤون أهم من مسيرة السلام ايضا كالاستعداد للعاصفة مثلا طمأن نتنياهو بقوله ‘كنا مستعدين كما يجب أن تكون الدولة مستعدة’، لكن المترجم نتنياهو الذي بدت له هذه العبارة غريبة وغير واقعية، أظهر بلغة جسمه عدم ثقة بارزا في كل ما قامت به الشرطة والجيش والبلدية. لأن هذا هو الجمال في لغة الاشارة، فانه يمكنك أن تقول بها كل الحقيقة لأنها موجهة فقط الى الصم والبكم؛ أي الى الذين لا يستطيعون أصلا الاحتجاج والصراخ، أما الآخرون جميعا فيضطرون الى الاكتفاء بالأصل.
تبدأ المشكلة حينما يتبين فجأة لشخص ما أن فم نتنياهو ويديه ليسا متواطئين. خُيل إلينا لحظة أن المترجم من جنوب افريقيا قد منح نتنياهو هنا ايضا المخرج السحري من حالة الكشف المأساوية. ‘عانيت حالة فصام على المنصة’، بيّن. لكن لا يمكن أن ‘نتهم’ نتنياهو بالفصام برغم أنه تحدث ذات مرة عن خوفه حينما رأى جنودا بريطانيين يتجولون في القدس، وتعلمون أنه ولد بعد أن غادر البريطانيون بزمن طويل.
إن الاول يرى ملائكة وأما الآخر فيهذي بجنود بريطانيين، والثالث يتخيل أن الهيكل قد أصبح مبنيا. إن نتنياهو يكذب عن ايمان بالكذب لا لمرض.
وهكذا تكون لغة اشارته احيانا مشابهة لما يخرج من فمه. وهذا يحدث حينما يكذب فيهما جميعا. كما كانت الحال مثلا حينما وعد في 2009 بأن ينخفض عبء الضريبة انخفاضا حادا من 46 بالمئة الى 35 بالمئة، فارتفعت يده اليمنى، وبيّنت بحركة تصميم للصم والبكم جوهر نظرية الـ ‘الصد والتحول والانسحاب’. يا لها من لغة اشارة مدهشة، إن جنتاجيا ما زالت أمامه طريق طويلة يقطعها الى أن يصل الى هذا التزامن التام.
لكن ينبغي ألا نُسرع وننفي تشخيص الفصام، لا عند نتنياهو بل عند الجمهور. لأن من يسمع الكلام ويرى لغة الاشارة ويظل يؤمن بأنهم يقولون له الحقيقة، يحتاج الى التوجيه للكشف عنه على عجل.

السابق
مجدلاني: لضبط الحدود ومنع تسلّل المسلّحين
التالي
العارفي مهدداً: السنّة عائدون ودماء محمد الظريف لن تذهب هدراً