حظوظ التمديد الرئاسي صفر

على الرغم من سلسلة التأكيدات العلنية لرئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان أنّه لا يريد التمديد، ويرفضه، إلّا أنّ الكواليس السياسية والديبلوماسية تضجّ بالمعلومات عن سعي دؤوب لرئيس الجمهورية من أجل التّجديد له لنصف ولاية، بذريعة تجنّب الفراغ.

في الأساس، لم يقتنع أحد بالنفي “الإعلامي” للرئيس سليمان انطلاقاً من الوقائع التاريخية. ذلك أنّ رئيسين فقط في تاريخ رؤساء الجمهورية رفضا فعليّاً التجديد أو التمديد لهما على رغم الطلب الخارجي المُلحّ والمؤكّد، وهما الرئيس فؤاد شهاب الذي تحوَّل “عقدة” لجميع الذين خلفوه، والرئيس الياس سركيس الذي دخل ضعيفاً وخرج قويّاً.

فالأوَّل رجاه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر ليقبل بتجديد، كانت الاغلبية النيابية بدأت بصياغة تعديله الدستوري، لكنّه رفض بحزم وانتهت المسألة بشَوشرة إعلامية لأسابيع معدودة.

والثاني عرض عليه الاميركيون في عزّ حصار الجيش الاسرائيلي لبيروت الغربية تجديد ولايته أو على الأقل تمديدها، وكان أيضاً قاطعاً في جوابه، فتراجع التداول الإعلامي في ذلك فوراً.

كان شهاب جدّياً في مشروع بناء الدولة على اساس المؤسّسات، وكان سركيس جادّاً في وضع لبنان على سكّة الحلّ والزهد بالسلطة. ومع ذلك فإنّ العديد من الرؤساء سعوا لتمرير التمديد لهم، فجاءت نهاية عهودهم كارثية على الاستقرار الداخلي.

وليس من باب المصادفة أن يتحقَّق التمديد مرّتين في ظلّ الوصاية السورية المطلقة على لبنان، ذلك أنّه حين وُضع الدستور اللبناني برعاية فرنسيّة، حُصِّن موقع الرئاسة الأولى من خلال نصوص دستورية عدّة، أبرزها أن تكون ولاية رئيس الجمهورية طويلة بما فيه الكفاية، أي لسِتّ سنوات تجعله قادراً على ممارسة دوره من دون الوقوع في هاجس خروجه القريب من قصر بعبدا، إضافةً إلى حتمية عدم التجديد له ليُحصَّن من مغريات السقوط في سياسة الخضوع للقوى الأخرى طمعاً في التمديد. لذلك، كان أحد أهداف “التمديدين” أيام الانتداب السوري، إضعاف الرئاسة وجعلها أسيرة “شهوة” التمديد.

وخلافاً لما يعتقده البعض، فإنّ الرئيس سليمان بدأ بترتيب معركة “التجديد له” منذ أكثر من سنة، على رغم أنّ السقف انخفض الآن لنصف ولاية أو حتى لسنتين فقط.

لذلك، باشر منذ اكثر من سنة بعملية “ليفتنغ” لفريقه المعاون مركّزاً على الإعلام لتحسين صورته. كان يفكّر مثلاً بالراحل الكبير فؤاد الترك لضمِّه الى الفريق لكنّه مات قبل ان يقدّم له عرضه. كذلك، قدَّم سليمان عرضه لأحد الإعلاميين الكبار، فاعتذر بلباقة، ولم ينجح كذلك في إقناع شخصية بارعة بتولّي موقع أراد استحداثه، وهو الناطق الرسمي باسم قصر بعبدا.

كان سليمان يريد السعي ضمناً بقوّة، لتأمين التجديد مع حرص كامل أبلغه إلى فريقه المعاون، على إعلان عكس ذلك إعلاميّاً لإدراكه أنّ خطوة من هذا النوع لا تحظى بالشعبية لدى الناس.

هكذا، فكَّر مثلاً في إحدى المرّات، بنقل حاجياته الخاصة من القصر الجمهوري بعد أعياد رأس السنة وتسريب ذلك من خلال وسائل الإعلام، كدليل للأوساط الشعبية بأنّه يفكّر في المغادرة، فيما القوى الكبرى تتمسَّك ببقائه.

وفي موازاة ذلك، تردَّد أحد أقرب مستشاريه الى السفارتين الاميركية والفرنسية بشكل مكثّف. وهناك أسهب في تعداد المخاطر التي تنتظر لبنان، معتبراً أنّ التجديد لسليمان قد يُجنّبه الكثير منها، تماماً كما لو قبل الياس سركيس التجديد له، لكانَ لبنان نجا من المآسي التي حصلت لاحقاً مع الرئيس أمين الجميّل.

ولم ينسَ المستشار الأقرب الى سليمان، القول في كلّ مرّة أنّ لا عِلم للرئيس بكلّ هذه الأفكار. كان سليمان يريد ربح الدنيا والآخرة معاً.
ثمّ حضَّر سليمان جيّداً للقائه بالرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند ـ حيث سمع مناخاً إيجابياً، لكنّه قال للقريبين منه بابتسامة عريضة: لم يحصل شيء بعد، هناك القرار الأميركي.

وفي نيويورك، كان اللقاء الأبرز مع جيفري فيلتمان، حيث أسهب الرئيس اللبناني ومعه السفير ناجي ابي عاصي في تشريح الخريطة السياسية الداخلية وبأنّ لا أمل من النائب وليد جنبلاط، الأمر الذي فاجأ فيلتمان، مؤكّداً أنّ وجوده هو العامل الوحيد القادر على تأمين استمرار التوازن مع الفريق الآخر. وقد تجاوب فيلتمان من جهته، ما جعل الرئيس يعود منتشياً ومعتقداً أنّ القرار الدولي بات لمصلحته.

وفي السعودية، عرض سليمان نفسه على أنّه الوحيد القادر على الوقوف في وجه “جموح حزب الله”، وهو مسلّح بمواقفه خلال الأشهر الاخيرة. أمّا في بيروت، فقد أرسل سليمان أحد مستشاريه إلى مسؤولين في الحزب ليناقشهم في أكثر من جلسة بأنّه هو الوحيد الضامن لسلاحهم وأنّ المواقف الإعلامية شيء والقرارات الفعلية شيء آخر، بدليل مواقفه خلال طاولة الحوار.

لكنّ “حزب الله” رفض التمديد على لسان أمينه العام السيّد حسن نصرالله، ما يعني أنّ هذا الموقف لم يعد يخضع للمساومة، ما جعل رئيس الجمهورية يرفع السقف في موضوع تأليف الحكومة كوسيلة ضغط ربّما.

في باريس اصطدمت حماسة هولاند بواقعية رجال الإدارة الفرنسية، فتبدَّل مناخ فرنسا. لذلك، تعمَّد السفير الفرنسي في لبنان باتريس باولي، مثلاً، الإدلاء بمقابلة مسهبة في إحدى الصحف، هدفها الاساسي الإعلان أنّ بلاده لا تشجّع أيّ خيار يتعلق بالاستحقاق الرئاسي. في وقت تسود فيه قناعة واسعة داخل هذه الإدارة، بأنّ أحد أسباب حماسة سليمان للبقاء، خشيته من فتح ملفّ جوازات السفر المزوّرة قضائيّاً في حال لم يعُد رئيساً، وهو ما كان كاشفَ به هولاند في خلوة “فيس”.

أمّا في واشنطن، فانتقادات بالجملة لعهد سليمان. وهو عندما اختير، كان الهدف إيصال قائد الجيش الى الموقع الأوّل ما يجعله لاعباً قويّاً. لذلك كان الحرص على إبقاء الحقائب الأمنية من حصته. لكنّ الاوساط الغربية لم ترَ إنجازاً واحداً على مدى سنوات الحكم بدءاً من تردّي الأوضاع الامنية واحتضان لبنان كلّ مخاطر الحرب الدائرة في سوريا، وصولاً إلى الموافقة الضمنية للتمديد لمجلس النواب، وذلك ربّما لفتح الطريق أمام تمديد رئاسي.

من أجل كلّ ذلك، لم ينجح فيلتمان في تأمين الضوء الأخضر من الإدارة الاميركية لمشروع التمديد لسليمان.

السابق
انتحاريان في صيدا: الإقتصاص من الجيش
التالي
بان كي مون: على لبنان واسرائيل ان يضبطا النفسيهما