عرسال… جمهورية الثورة السورية في لبنان

عرسال

أقلّ ما يمكن ان يقال عن بلدة عرسال «السنية الوحيدة» في محيط قرى «شيعية» في البقاع الشمالي، انها «جمهورية الثورة السورية في لبنان»، لما تتحمله من أعباء بعدما بلغ** عدد النازحين فيها 80 الفاً، اي ضعف عدد سكانها الاصليين، ولموقعها «الجيو – سياسي» الذي يضعها على تماس مباشر مع الأزمة السورية و«حقل ألغامها» الذي صارت امتداداً له.
هي عرسال التي ارتبط اسمها منذ احتدام العمليات العسكرية في المقلب السوري بعمليات قصف تعرّضت لها من الجيش السوري النظامي في اطار ما اعتبرته فاعليات البلدة وقوى 14 آذار محاولة «تأديب» لها على موقفها الداعم للثورة السورية وسعي لجرّها الى صِدام ذات طابع مذهبي، وذلك نظراً الى الاهمية الاستراتيجية التي يعلّقها النظام السوري و«حزب الله» على شطبها من خريطة التماس مع الصراع السوري الذي ترتبط به هذه البلدة عبر جرودها بحدود صارت كـ «خط نار» بامتداد نحو 55 كيلومتراً مترامية من محافظة ريف دمشق الى محافظة حمص. علماً ان تموْضعها الجغرافي يربطها من خلال حدودها الجنوبية بيبرود والنبك، في حين تتصل من خلال جردها الشمالي بأطراف ريف القصير، وعبر مشاريع القاع اللبنانية – «التوأم» لها في السياسة والديموغرافيا – بقرى الشريط السني في ريف القصير.
ومنذ سقوط القصير، بقيت عرسال بمثابة «رئة» للجيش السوري الحر في شريط القرى المحاذية لسلسلة جبال لبنان الشرقية ولمع اسمها عشية بدء معركة السيطرة على المثلث الفسيح والوعر الممتدّ بين القلمون – جرود عرسال – الزبداني وسط مخاوف من تداعيات امكان فرار المسلحين اليها وما قد يُحدثه ذلك من توترات في المنطقة ومع محيطها.
وعلى وقع اشتداد معركة القلمون (في ريف دمشق الشمالي الغربي المحاذي لسلسلة جبال لبنان الشرقية) بمعنى عزلها عن محيطها وتطويقها من الجهة السوريّة، أي الشرق والجنوب والشمال، وتطويقها أيضاً من جهة الحدود اللبنانية اي جهة الغرب بما يوجِد جداراً يمنع اتصالها بامتدادها اللبناني، بقيت الانظار شاخصة على عرسال، التي استقبلت في غضون ايام «طوفان» نازحين فاضت بهم البلدة التي لا قدرة لها على تحمّل هذا العبء، في ظل خشية متعاظمة من «تشظيات» الوقائع العسكرية المتسارعة في الجانب السوري ولا سيما مع التقارير التي اشارت الى سيطرة الجيش السوري على النبك وهو ما اعتبره خبراء عسكريون قريبون من النظام السوري على انه يقطع كل الاوصال والمفاصل بين المجموعات العسكرية المعارِضة في القلمون والغوطة الشرقية، وبين القلمون وحتى ما تبقى من جرود عرسال. علماً ان منطقة القلمون تُعتبر استراتيجية لانها تشكل قاعدة خلفية للمعارضة المسلحة تزود منها معاقلها في ريف دمشق وبعض المناطق المتبقية لها في حمص بالسلاح والرجال. كما انها اساسية للنظام، لانها تؤمن له التواصل بين وسط البلاد ودمشق.
وما أبقى عرسال في دائرة الضوء و«الخطر»، ان العمليات العسكرية في القلمون ترافقت مع وضع هذه البلدة في «دائرة الاتهام» من فريق 8 آذار اللبناني سواء بانها تحتضن عناصر من «جبهة النصرة» و«داعش» او بانها ممرّ للسيارات المفخخة الآتية من سورية، وهو ما اعلنه الامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله في مقابلته التلفزيونية الاخيرة حين قال ان السيارات التي انفجرت في لبنان سواء امام السفارة الايرانية او في الضاحية الجنوبية جاءت من يبرود والنبك السوريتين عبر عرسال.
الا ان رئيس بلدية عرسال علي الحجيري يرد عبر «الراي» مؤكداً «ان لا «النصرة» ولا «داعش» موجودان عندنا»، لافتاً الى «ان هذه شائعات مغرضة هدفها الإيقاع بين عرسال والجيش، لتُحاسَب البلدة على موقفها المؤيد للثورة السورية»، مشيراً الى «ان البلدية وفعاليات البلدة هم اول مَن طلب انتشار الجيش على كافة حدود عرسال غير الشرعية مع سورية، والتي تمتد حوالي مئة كيلومتر»، مضيفاً: «جيش بأكمله لا يمكنه ضبط هذه المسافة فكيف لنا ذلك كبلدية بامكاناتها المتواضعة، عدا عن انه خلال تلك الفترة التي طلبنا بها ذلك، رفض الآخرون هذا الطلب، لان التعديات علينا كانت وما زالت من الجانب السوري وفي شكل شبه يومي».
وتابع: «لا يمكن أن نحل محل الدولة، ونسد كل هذه المساحة، وكل ما نقوم به لا يتعدى الاجراءات الاحترازية والاغاثية، حيث عممنا قراراً بمنع التجمعات في الساحات وتجول السوريين ليلاً بسياراتهم، تحسباً من صاروخ او قذيفة، ترتكب مجزرة بحق الاهالي والنازحين، اضافة الى ان ليس كل النازحين الموجودين مؤيديين للمعارضة، فبينهم العشرات من «جماعة النظام».
يحاول الحجيري ان يكون موضوعياً، في رده على تسلل عناصر من الجيش الحر وجبهة النصرة الى عرسال، بالقول: «حدودنا واسعة والجيش موجود، ولدينا 80 الف نازح ونازحة، وإمكاناتنا إمكانات بلدية لا امكانات دولة. يدخل الى البلدة يومياً العشرات من الاشخاص، كيف لنا ان ندقق بكل من يدخل ويخرج؟»، مشيراً الى «ان الحمل كبير جداً، نحن كبلدية اصبحنا معنيين بـ120 الف مواطن في البلدة، وامكاناتنا لا تؤمن خدمات لـ 20 الفاً، والمشكلة تكبر، والنفايات ازدادت خمسة اضعاف، والصرف الصحي كذلك، من دون اغفال الحاجة الى المياه والكهرباء، كلها اعباء ضخمة، عدا عن الواقع الامني للبلدة، والواقع الاجتماعي، الذي تكبر ازمته مع كل عملية عسكرية في الجانب السوري المجاور لعرسال».
ما شرحه رئيس البلدية عن الواقع العرسالي تؤكده حال النازحين الذين تصادف أعداداً منهم في الطرق أكثر من سكان البلدة التي شرّع كل منزل فيها ابوابه لعائلة سورية أو أكثر، من دون اغفال عشرات المخيمات الصغيرة التي أنشئت وتضم آلاف اللاجئين. وبات من «سابع المستحيلات» العثور على غرفة او محل شاغرين، وحتى قاعات المساجد تشغلها عشرات العائلات النازحة. كما ان الطرق صارت تضيق بسيارات النازحين ودرجاتهم النارية، عدا عن العائلات التي تأتي تباعاً.
وهذا الواقع يجعل العاملين في القطاعات الانسانية والاغاثية في البلدة يعملون كـ«خلية نحل» وكأنّهم يسابقون «الأفواج» الآتية من النازحين. لا تتأثر حماوتهم ببرودة الطقس والصقيع الذي بدأ يرتسم على وجوه الاطفال والنساء المشردات دون مأوى.
في جميع الأحياء والأزقة نشاط وحركة مكوكية. وهناك في الجهة الشمالية الشرقية للبلدة تنهمك مجموعة من شبان ومتطوعي جمعية الابرار الاسلامية الخيرية واتحاد جمعيات الاغاثة، وجمعية الرحمة العالمية – الكويتية، في وضع اللمسات السريعة لتشغيل مستشفى «الرحمة» الميداني الوحيد في المنطقة والذي افتتح بروتوكولياً بحضور جمعية الرحمة ممثّلة بالدكتور وليد العنجري، قبل ان يباشر عمله باستقبال الجرحى والمرضى في اسرته الثمانية بعد ايام، بحسب ما أكده المشرف عليه الطبيب السوري نبيل.
اما في الجهة الجنوبية الشرقية من البلدة، فيستعجل نحو 20 عاملاً بتوجيهات من المسؤول الاجتماعي في الجماعة الاسلامية الشيخ يحيى البريدي، لبناء مخيم من عشرين غرفة اسمنتية مع منتفاعتها، لايواء اكثر من عشرين عائلة نازحة لم تجد مأوى لها. وفي المخيم الرئيسي حيث تضيق الخيم بأنفاس ساكنيها، يوكل العمل للهيئات الانسانية والمدنية من لبنانية ودولية التي تتوزع مهماتها بين الاحصاء والمساعدة العينية. حتى قاعة احد مساجد البلدة تحولت الى مأوى للعائلات النازحة، ومقر لتوزيع مساعدات مالية وألعاب للاطفال.
«حمدة»، سيدة في العقد الرابع تجرّ معها فتاتين وثلاثة صبيان. تحمد ربها انها «نفَذت» بأولادها (من بلدة قارة) من الموت الذي شاهدته بعينيها اكثر من عشر مرات بحسب ما اكدت لـ»الراي».
لا تنكر انها زوجة احد المقاتلين في الجيش الحر، وقالت: «زوجي هو من هربني وكثير من النساء والاطفال اتوا عبر الجبال، وقد اوصلني زوجي الى الجرد القريب من عرسال». وتتنهد لتكمل حديثها موضحة السبب الذي جعلها تقصد هذه البلدة دون غيرها من القرى اللبنانية القريبة: «اوصاني زوجي ان لا اخرج من عرسال الى اي بلدة اخرى، «هون اضمن النا وهيك هو بيقدر يجي يطمن علينا»، لتشرح انه فور وصولهم الى نقطة محددة في الجرد «حضرت مجموعة من الشباب بسيارات البيك آب، وبدأوا بنقلنا الى داخل عرسال».
هذا في المجال الاغاثي اما في المقلب الآخر من واقع عرسال، فهي ما زالت تستقبل جرحى الحرب الدائرة خلف كتفها من السلسلة الشرقية، وبينهم «عمار»، احد عناصر الجيش الحر، الذي أُسعف الى عرسال مصاباً بكتفه خلال معارك دير عطيه الاخيرة.
ويشكر «عمار»، الذي تم اسعافه وتضميد جراحه من خلال العيادة النقالة، لرئيس البلدية وابناء بلدة عرسال ما ابدوه من تعاطف ومساعدة له، وللمئات من النازحين والمصابين، ويقول: «الريس واهالي البلدة نشامى فتحوا لنا ابواب بلدتهم وصدورهم».
وينفي ما اشيع عن وجود عناصر من «داعش» بين المقاتلين في القلمون، ويردّ مبتسماً «كيف بدو يكون معنا عناصر من داعش وهم عم يقتلوا اخواننا في الجيش الحر في حلب»، ويضيف متهماً «داعش» بانها «تخدم النظام مثلها مثل حزب ايران»، (يقصد حزب الله اللبناني).
ويعترف الجريح «منذر»، الذي نقل قبل اسبوع الى عرسال لتلقي العلاج واسعافه من اصاباته في ساقيْه، بأن استراتيجية الجيش الحر في المعارك «اختلفت عن السابق»، وقال: «الجديد في الامر ان الحرب كر وفر، وليس سيطرة كاملة، وهكذا نستطيع تبديد قوة جيش الاسد، ما يسهل علينا محاربته. كل همنا كان كيف ننقذ الابرياء والمدنيين. لن نكرر معركة القصير ونضع فيها كل ثقلنا».
واذ لا ينفي ان المعارضة تستعد وتجمع قواها في معارك النبك وغيرها، قال منذر مبرراً تبدل الخطط: «لا نفع للنظام بمدن خالية من سكانها. يسيطر على مدن لاننا اردنا حماية المدنيين فأخرجناهم من تحت ثقل خزانات الموت التي يرميها فوق رؤوسهم»، معتبراً «ان هذا انتصار للمعارضة وليس هزيمة».
ويعيد منذر اسباب سقوط القصير سابقاً واليوم قارة ودير عطية الى «ان النظام يحاربنا بالمدنيين والاطفال، ويضرب المجمعات المدنية دون رحمة، ويحاصر مدناً بأكملها، ويمنع دخول فتة خبز الى قارة والقصير، ولهذا لم نشأ ان نكون سبباً في مجازر بحق اهلنا، ومن هذا المنطلق لم نعد نعتمد السيطرة على مدن كاملة ما لم يكن خط إمدادها مؤمناً. قارة والقصير كان خط لإمدادهما من جهتين واحدة لبنانية عبر عرسال، كانت للامداد الانساني والغذائي وكثيراً ما تعرضت للقصف، والثانية عبر خط حمص حلب للعسكري».
هذا ايضاً ما أكده «ابو خليل»، المسؤول في الجيش الحر الذي قدم الى عرسال للمعالجة بعد اصابته بصدره ووجهه خلال غارة من طائرات النظام، متحدثاً عن «اعتماد خطة تبديد قوة النظام، والتحضير لمعركة في النبك»، ليوجّه عتباً «على تخاذل الدول العالمية والعربية في امداد المعارضة بالسلاح»، مضيفاً: «لا يمكن للسلاح الفردي ان يواجه هذه الطائرات، لذلك صمودنا انتصار، النظام استقدم مقاتلين معه ايرانيين وعراقيين ولبنانيين، ما يعني انه انهزم وسقط».
واذ ينفي في شكل قاطع دخول مسلحين من «النصرة» او من الجيش الحر الى داخل عرسال، قال «من الطبيعي ان نختبئ في الجرود. هناك يوجد مغاور وهذه ربما بعضها يتبع عقاريا لعرسال، انما بعيدة عن عرسال حوالي 20 كيلومتراً».
لا يعير «ابو خليل» اهمية لاصابته مهما بلغ جرحه. يستذكر وهو يحاول ان يبلع غصة ألم، ليروي كيف شاهد في بلدة قارة قذائف سوّت اسطح المنازل بأجساد الاطفال والنساء وهم داخلها، ويختم «سننتصر باذن الله وما النصر الا صبر ساعة».
بدوره الشيخ يحيى البريدي، مسؤول القطاع الاجتماعي في الجماعة الاسلامية، اعتبر ان المهمات الاساسية والرئيسية التي تشغل بال الجميع «هي ايجاد مأوى للنساء والأطفال النازحين والهاربين من الموت والحصار والجوع، وايجاد نوافذ المساعدة لهم، عبر الجمعيات العربية والدولية، وهذا ما يخفف من الاعباء عليهم وعلى مجتمعنا واهالي بلدتنا». واشار الى «ان المستشفى الميداني اتى نتيجة ثمرة تعاون بين جمعية الرحمة العالمية ـ الكويتية، واتحاد الجمعيات والجماعة الاسلامية»، خاتماً: «بقدر اهميته لدى الجرحى والمرضى السوريين، فان اهميته كبيرة لأهالي عرسال، ولا سيما في فصل الشتاء حيث تقفل الثلوج الطرق وتسد امامهم المنافذ الى مستشفيات المنطقة».

السابق
واشنطن تناقش مع الجبهة الإسلامية إمكان تسليحها
التالي
الامير تركي بن الفيصل: واشنطن ولندن لم تساعدا مقاتلي المعارضة بسوريا بما يكفي