عنب لبنان

تتكاثر الدعوات إلى ضرورة الحؤول دون إحداث فراغ في الرئاسة الأولى. هذا شأنٌ يجب أن يعتبره “المواطنون” عملاً جيداً، ولازماً، لتفادي النزول إلى قعر القعر. فليكن. لكني، على هامش هذه الضرورة البالغة الأهمية، التي تتلازم مع ضرورة المحافظة على حدّ أدنى من سلّم القيم، وعلى لزوم تأليف حكومة، وانتخاب مجلس للنواب، وملء الفراغات في مؤسسات الدولة وإداراتها، أواصل في هذا المقال “تحريض” اللبنانيين، من دون استثناء، على عدم الانجرار إلى أرباع الحلول وأنصافها، الساذجة، التافهة، الخادعة، الزائفة، الماكرة والمفخَّخة، على طريقة القبول باستمرار الأمر الواقع، وترقيعه، ومراعاته، ومحاولة ترميمه بالأكاذيب، والرضا الممزوج بالأسى والغبن من جهة، أو بالغلبة من جهة ثانية.

لماذا “أحرّض” اللبنانيين على اعتبار هذه الفرصة تاريخية، لإعادة التفكير الرصين في البنية الدستورية للبنان الوجود والكيان والدولة، ومحاولة الخروج بتصوّرٍ دولتي، قادر على استيعاب الأزمات وتخطيها، وبلورة حياةٍ وطنية، ديموقراطية، وكريمة؟
لأني في اعتقادي المتواضع، أرى أن الأزمة التي تعصف بلبنان راهناً، هي حصيلة أخطاء وفجوات بنيوية دستورية، وأزمات متراكمة، وصلت إلى ذروتها الداخلية، بإخلال “حزب الله” بالمعادلات اللبنانية، من طريق القوة، بالتزامن مع ما يجري في العالم العربي، وخصوصاً في سوريا.
لم يعمل اللبنانيون، طبقتهم السياسية في الخصوص، طوال العقود المنصرمة، على حماية الإنجاز المتمثل في وجود مشروع دولة ذات سيادة، وتمكينها من ممارسة مهابتها المعنوية، ومرجعيتها، وسلطتها، بل عمل كلٌّ على وأد هذه الدولة، واقتناص مشروعها، وتقاسمه، وعلى إعطاء الأولوية لحماية فريقه، وترسيخ وجوده، على حساب الدولة بالذات.
هذا “طبيعي”، في بلادٍ قائمة على جموح الغرائز والتصيّد والانتهاز، وعلى التسويات الكاذبة، وعلى تسعير جنون الطوائف والمذاهب والعصابات السياسية. والحال هذه، “طبيعي” أيضاً أن يصل لبنان الدولة حالياً إلى طريق مسدود، وهو طريقٌ، أعتقد أن لا بدّ من أن يدرك الأطراف كافةً، استحالة الرجوع عنه، أو إيجاد ثغرة فيه، من دون عودة حزب السلاح عن غيّه، ومن دون اجتراح حلولٍ بنيوية قابلة للعيش الديموقراطي والصيرورة الخلاّقة.
حيال هذا الطريق المسدود، “نصيحتي” المتواضعة أن لا يركن سرّاق لبنان ومحطّمو مشروع دولته، كما حرّاس ضميره الوجودي على السواء، إلى الاكتفاء بإيجاد مخارج “مُذلّة” لانتخاب رئيس للجمهورية. هذا “الحل” – على ضرورته القصوى وأهميته الدستورية – هو ورقة تين لا تستر عهراً، وهو في الحساب الوجودي محض إرجاءٍ للمشكلة إلى حين.
ففي اعتقادي المتواضع دائماً وأبداً، أن ليس هناك محض أزمة حكومية، ولا محض أزمة ملء مقعد رئاسي، ولا محض أزمة تجديد الولاية، أو بعضها لمجلس النواب، أو لمنصب قائد الجيش، أو لموظفي الفئة الأولى في إدارات الدولة.
ثمة، في الجوهر، أزمة استيلاء على الدولة، وأزمة نظام، ودستور، تتمظهر في تجليات واستحقاقات، دستورية وإدارية، ظاهرها كما نرى ونعاين، لكن باطنها يحفر في مأزق الكيان ذاته.
هذه الأزمة تسمّى في التقاليد الفلسفية والفكرية، أزمة وجودية، تطاول لبنان الدولة والانتظام العام، ولبنان الكينونة، ولبنان المصير.
ماذا تفعل طبقة السلطة، هذه الطبقة كلّها، بمَن فيها أهل الدنيا والدين والغلبة والفوز والفساد والاستئثار والنهش والترهيب والعنف والقتل والممانعة والمقاومة والسلاح والمال، حيال هذه المأساة؟ كلٌّ يريد تظهير نفسه بمظهر المنقذ. كلٌّ يريد الفوز على “الآخر”. وكلٌّ ينتظر حلولاً من خارج. هذا ينتظر إيران. وذاك ينتظر السعودية. لا أحد من هؤلاء وأولئك يتطلع إلى ما يليق بوجود دولة معاصرة، حديثة، حرّة، ديموقراطية، متنوعة، ذات سيادة، حيث السلطة للدستور، وللقانون، لا للمرتزقة، والانتهازيين، وللعصابات الدينية والأمنية والسياسية والمالية.

السابق
مَنْ يحكم لبنان
التالي
بين شرعة الحقوق وشريعة الغاب