بين شرعة الحقوق وشريعة الغاب

رحلَ الرئيس نلسون مانديلا الرجل الذي دافع بسلام عن شرعة الحقوق وقدّم لها زهاء 28 عاماً من حياته إعتقالاً سياسياً، إنتهى بمصالحة وطنية أخمدت الحرب العرقية المستمرة، في جنوب إفريقيا.

ولأنّ لبنان الذي مرّ في أزمات متلاحقة منذ نشأة الدولة فيه لم يتمكن من تجاوز الحرب الأهلية عام 1975 ولا من التحرر من الوصاية السورية إلّا عام 2005، ولم يتمكن من إخراج إسرائيل من أرضه إلّا عام 2000 على رغم استمرار المواجهة معها على مختلف الأصعدة.

فقد ارتكب الإحتلال الإسرائيلي إنتهاكاتٍ فظيعة، فيما كان للوصاية السورية المساحة الأكبر من الإعتداءات العسكرية خلال الحرب اللبنانية إضافة إلى طائل من الإنتهاكات السياسية، خصوصاً بُعيد توقيع “إتفاق الطائف”، إذ شنَّت سلطة الوصاية حروبَ الإقصاء والتهجير والقمع والتنكيل بالأفراد، إلى أيّ جهة انتموا، طالما أنهم لم يقدموا ولاءهم لها.

وفي مقابل هذا، نرى أنّ البلدان التي تتمسَّك بقيمة المواطن لديها تخوض حروباً لاستعادة مواطنيها حفاظاً عليهم، أما في لبنان فقد كنا ومنذ اندلاع الحرب اللبنانية وحتى العام 2008 في حال لا تسأل فيها السلطة السياسية والعسكرية عن مواطنيها وضباطها وعناصرها، ولا عن شيوخها ورهبانها وراهباتها. ويُشار إلى أنّ بعض الأمهات كنّ قد سدّدن مئات الآلاف من الدولارات لكي تستعدن أولادهن فتمكن البعض منهم (وهم قلّة) من العودة إلى الوطن، في حين لا يزال معظمهم أسرى يسيرون على درب الجلجلة المسمّاة “المعتقلين والمفقودين في السجون السورية”.

طبعاً إستمرت حالات الخطف والإعتقال التعسفي حتى بعد انطلاق الثورة السورية في ربيع العام 2011 لتشمل كما سابقاً الأساقفة والكهنة والراهبات والمواطنين من سوريين ولبنانيين، مضافاً إلى أنّ هذا النظام قد ارتكب كلّ أنواع الإنتهاكات في حق شعبه. وأمام كل هذا فإنّ مَن بقيَ حليفاً لهذا النظام أي نظام الإستبداد والقهر لم يحرّك ساكناً، فغضّ الطرف عن هذه الإنتهاكات، لا بل إنه ذهب إلى سوريا ليقاتل ويموت عنه!

ومن جملة الإنتهاكات لحقوق الإنسان أيضاً حرمان اللبنانيين الهاربين عام 2000 إثر الإنسحاب الإسرائيلي إلى فلسطين المحتلة من العودة الكريمة إلى لبنان، تفتح فيها الدولة لهم ذراعيها بعد غيابٍ لامسَ الأربعين عاماً فتحاكم منهم بعدل من ارتكب جرائم معينة، وتَحضُن من هم في حاجة الى رعايتها واهتمامها.

كم من الحقوق المنتهَكة والقضايا الشائكة التي تهمل الدولة معالجتها منذ أجيال وتنسحق يوماً بعد يوم قيمة الإنسان مع إزدياد الإهمال وانتشار الفساد والفوضى والفراغ وفقدان بنيان الدولة، دولةٌ لم تجمع بعد بَينها وبين مواطنيها رابطة الولاء، فقد غاب عنهم مفهوم اللحمة الوطنية لأنّ انتماءاتهم شرذمتهم وقسّمتهم شيَعاً حتى كادت الهوية تضيع فكيف بالحقوق.

قوانين لا تنزل أحكامها إلاّ على المؤمنين بمفهوم الدولة، وتنام هذه الأحكام في ثبات عميق في مواجهة من لا شرعة وشريعة لهم إلاّ المزرعة الضيقة التي لا ترتقي إلى مفهوم التلاقي بين المواطنين تحت سقف الإنتماء إلى دولة، فمتى الخلاص؟

السابق
عنب لبنان
التالي
المواجهة الكبرى المقبلة بين السعودية وإيران