إنهاء الازدواجية السنّية

بعد جدل لم يعمّر في الأيام الأخيرة، صُرف الاهتمام عن تعويم الحكومة المستقيلة أو استعادتها اجتماعاتها على غرار تجاهل الحديث في تأليف الحكومة، وقد أضحى استحقاقاً مؤجلاً كي لا يقال معطلاً. وحدها انتخابات الرئاسة في الواجهة. لكن ما الذي ينتظر المهلة الدستورية؟

لم يطل سوى بضع ساعات الحديث عن تعويم حكومة الرئيس نجيب ميقاتي تارة، وعودة مجلس الوزراء إلى الاجتماع طوراً. عاد الجميع إلى المأزق المستعصي الحل حتى إشعار آخر: لا حكومة جديدة. لكن أيضاً لا سلطة إجرائية تملأ الفراغ، رغم أن وزراء الحكومة المستقيلة يمارسون مهماتهم بصلاحيات كاملة متجاوزين النطاق الضيق لتصريف الأعمال. لم يعد يصح تصريف الأعمال في النطاق الضيق الذي تحدث عنه الدستور وفسّره أكثر من اجتهاد لمجلس شورى الدولة منذ عام 1969، سوى في انعقاد الحكومة مجتمعة إلى طاولة مجلس الوزراء. على نحو مطابق تماماً لسياسة النأي بالنفس عن الحرب السورية التي قررتها الحكومة المستقيلة: تصحّ بدورها في مجلس الوزراء، ويتفلت منها وزراء الغالبية الحكومية خارجه، كي يذهب كل ــ على طريقته ـــ إلى فصول ما يدور في سوريا بين النظام ومعارضيه.

المأزق نفسه، على خط مواز، يرافق الرئيس المكلف تمام سلام: يتعذّر عليه تأليف الحكومة التي سيرأس من دون أن يكون هو عائق التعثر، ولا يسعه ـ للسبب نفسه ـ الاعتذار عن عدم تأليفها. بالتأكيد يفتح اعتذار سلام كوة دستورية وسياسية محتملة على إعادة تعويم حكومة ميقاتي عبر تراجع رئيسها عن استقالته، على غرار ما سبقه إليه، في ظل أحكام دستور ما قبل اتفاق الطائف، الرئيس سليم الحص مرتين عامي 1979 و1987، ما أتاح إعادة الروح إليها ومعاودتها عملها وانتظام صلاحياتها، كأن استقالتها تلك لم تكن. بيد أن مفتاح الاعتذار عن عدم التأليف ليس في يد سلام وحده. وقد لا يكون وحده المعني كذلك بوضع المفتاح في القفل إذا كان لا بد من الأخذ في الحسبان أن «تيار المستقبل»، حتى إشعار آخر، يتمسك بالإبقاء على تكليف سلام، وكان أول مَن سمّاه وأطلقه من منزل الرئيس سعد الحريري في وادي أبو جميل، وإذا كان لا بد من الأخذ في الحسبان أيضاً أن السعودية لا تشجع على اعتذار الرئيس المكلف.

مغزى ذلك أن الفريق السنّي يمسك بسرّ الحكومتين المعلقتين: المستقيلة التي لا ترحل، والجديدة التي لا تؤلف. يتشبث بالواقع الحكومي المزدوج على ما هو عليه، من دون إحراز أي تقدم، ويُعدّ نفسه باكراً لدور مهم في الاستحقاق الرئاسي كناخب محلي كبير.

الدور نفسه اضطلعت به حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بين عامي 2005 و2007. ويبدو رئيسها اليوم أكثر تمرساً بلعبته على أبواب انتخابات الرئاسة: للفريق السنّي كلمة رئيسية في تسمية الرئيس الجديد وتوجيه الاستحقاق المقبل، وإلا ذهب الجميع إلى فراغ تملأه حكومة ميقاتي، أو حكومة سلام إذا قيض لها أن تبصر النور. حصل ذلك في استحقاق 2007 والأشهر الستة التالية من شغور الرئاسة الأولى: تزامنت تسمية «تيار المستقبل» الرئيس التوافقي آنذاك مع انتقال صلاحيات الرئاسة إلى حكومة السنيورة التي وضعت بين يديها ـــ وكانت تقتصر على تمثيل فريق واحد ـــ صلاحيات رئيس الجمهورية والسلطة الإجرائية معاً.

في وقت لاحق على استقالة الحكومة الحالية، تراجعت على نحو ملحوظ الخلافات العميقة بين ميقاتي والسنيورة، وخصوصاً بصفته رأس التيار الذي يمثل، على وفرة حملات «تيار المستقبل» على رئيس الحكومة المستقيلة وتوجيه اتهامات شتى إليه. لم يكن من الصعب، على رئيس المجلس نبيه بري على الأقل، ملاحظة شقة الخلاف تضيق تدريجاً بين موقفي الرجلين، إلى أن اقتربا من أن يكونا متطابقين حيال رفض اجتماعات الحكومة ومجلس النواب على السواء، وبعضها دار في مكتب رئيس المجلس بالذات. جمع بينهما كذلك أكثر من ملف سياسي وأمني أو ملفات ارتبطت بشؤون الطائفة.

وهو يوشك على نهاية ولايته، يجد رئيس الجمهورية نفسه مقيّداً بالخيارات تلك.

لا يملك منفرداً مبادرة الحد الأدنى لإخراج البلاد من مأزقها السياسي والدستوري في آن واحد:

ـــ من دون موافقة ميقاتي لا يسعه دعوة الحكومة المستقيلة إلى الاجتماع. وقد سارع بدوره قبل يومين إلى التحفظ عن اجتماعها ما لم تحتمه الضرورة القصوى. يلتقي بذلك مع رئيس الحكومة، وكذلك قوى 14 آذار، على رفض ما تصرّ عليه قوى 8 آذار ويدعمه بري، وهو انعقاد مجلس الوزراء لمناقشة ملف النفط.

ولعل المصادفة تقود إلى تزامن بدء المهلة الدستورية لانتخاب الرئيس مع انقضاء سنة على استقالة الحكومة، لم يتح لرئيس الدولة خلالها سوى ترؤس اجتماع واحد لمجلس الوزراء، ما يشير إلى إهدار سنة كاملة من الولاية هباءً ومجاناً.

ــ ومن دون موافقة سلام، لا يسعه إصدار مراسيم قبول استقالة حكومة ميقاتي وتسمية الرئيس الجديد للحكومة وتأليفها. واقع الأمر أن سلام أضاف إلى التأليف معياراً جديداً، هو رفضه حكومة تولد ميتة. لا يضيره، شأن رئيس الجمهورية، حكومة لا تحوز ثقة مجلس النواب. بيد أن خروج طائفة رئيسية منها، كالوزراء الشيعة، فور صدور تأليفها لا يقتصر على إفقادها الصفة الميثاقية، بل يضع البلاد أمام نصفي حكومتين.

هكذا، من غير المستبعد أن يصل سليمان إلى الدقيقة الأخيرة من ولايته، منتصف ليل 24 أيار المقبل ــ الليلة الأكثر وطأة على الرؤساء المتعاقبين ــــ والبلاد تشهد لأول مرة تعايش رئيس مكلف تأليف حكومة مع رئيس حكومة مستقيلة. الأحرى أن الوطأة أثقل عند مغادرة سليمان قصر بعبدا قبل تمكن مجلس النواب من انتخاب رئيس جديد.

ما خبرته التجربة الرئاسية على مرّ عقود الاستحقاق، أن يجري الرئيسان الذاهب والآتي تسليماً وتسلماً. مع الرئيسين أمين الجميّل عام 1988 وإميل لحود عام 2007 قيلت عبارة واحدة تقريباً، هي أنهما تركا القصر وراءهما خالياً من خلف. قيل، كذلك، إن الرئيس المنقضية ولايته يتحمّل قسطاً من مسؤولية تعثّر انتخاب رئيس يسلّم إليه الجمهورية.

بل ما يبدو معلناً للرئيس الحالي أنه لن يترك الولاية، وخصوصاً في حال تعثُّر انتخاب رئيس جديد، بين يدي حكومة تمثل فريقاً واحداً ــ أضحى والرئيس على طرفي نقيض ـــ هو قوى 8 آذار تتولى صلاحيات الرئاسة الأولى وتدير الحكم. في المقابل، لا يملك سليمان البدائل الكافية لبلوغ هذا الهدف من دون أن يحظى بدعم الرئيس المكلف كي يشاركه مجازفة تأليف حكومة جديدة بدءاً بصدور مرسوم قبول استقالة حكومة ميقاتي لإنهاء الازدواجية. خطوة تسبق الخوض في مقدرة الحكومة الجديدة على المثول أمام مجلس النواب.

وقد تكمن القطبة المخفية في الطربوش في الحكومة التي تخلف الرئيس، ما دام الجميع يرجح شغوراً حتمياً.

السابق
وماذا إذا انهارت السيبة؟
التالي
أي مواصفات رئاسية تفرضها المتغيرات الإقليمية؟