بكركي تراكم خسائرها: الــرئاسة بعد قانون الانتخاب؟

لم يثر دخول بكركي على خط الانتخابات الرئاسية، بالطريقة التي حصلت فيها أخيراً، ارتياحاً في أوساط مسيحية على تماس مع الصرح البطريركي. فأن يتولى البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي البحث في الانتخابات الرئاسية، عن طريق جوجلة أسماء مرشحين واستقبال البعض منهم، والتلميح لآخرين باحتمال دعم وصولهم، أمر من شأنه أن يرتد على بكركي بكل ما يحمل ذلك من سلبيات تراكمها عاماً بعد آخر.
في الوثيقة السياسية للمجمع البطريركي الماروني عام 2006 ـــ التي تمثّل العودة إليها دوماً ضرورة قصوى لأنها بمثابة «دستور» الكنيسة المارونية الحديثة ــــ عصبان رئيسيان: التمسك باتفاق الطائف، ومشاركة الموارنة في تفعيل الحياة السياسية عبر سلسلة توجيهات أخلاقية ووطنية عامة. وإذا كانت بكركي في وجهها الجديد تذكّر بين الحين والآخر بوجوب البحث عن مؤتمر تأسيسي جديد، بخلاف ما أوصى به المجمع، فإن دخولها المعترك الرئاسي من الباب الضيق لا يصبّ في مصلحة الموارنة ولا حتماً في مصلحة بكركي التي تحدد لأبنائها في المجمع جملة مبادئ وطنية لاختيار ممثليهم من دون الدخول في لعبة الاسماء والتفاصيل اليومية.

ليست المرة الاولى التي تواجه فيها بكركي هذا التحدي. وفي المرتين كان عصب البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير ينقذ الصرح من متاهة الانزلاق الى عبثية الانتخابات الرئاسية. الاولى حين نقلت واشنطن الى بكركي طلب تأمين الانتخابات الرئاسية عام 1988 على قاعدة مخايل ضاهر أو الفوضى، والاجتماعات التي حصلت آنذاك في الصرح. يومها، ورغم الضغط الاميركي، حاول صفير تغليب المبادئ العامة لبكركي، وقال للموفد الاميركي ريشارد مورفي: «لا نريد أن ننطلق من اختيار الشخص بل من مبدأ الديموقراطية والحرية» (كتاب السادس والسبعون ــ مار نصرالله بطرس صفير. أنطوان سعد). أما المرة الثانية فكانت عام 2007 حين تدخل وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير لدى صفير الذي كان رفض أكثر من مرة الدخول في لعبة الاسماء، من أجل إعداد لائحة بأبرز المرشحين الذين ترى بكركي أنهم الاكثر ملاءمة كي ينتخب أحدهم رئيساً للجمهورية خلفاً للعماد إميل لحود. ورغم أن بكركي فشلت مرتين في إسماع كلمتها، تمكن صفير من تغطية الحادثتين بفعل ثباته على جملة مسلمات أخرى، سواء بالنسبة الى التمسك بالطائف أو مقارعة الوجود السوري وتأمين الحرية والاستقلال.
مع تبدّل الظروف والوجوه في بكركي، لم يبد أن محاولة الراعي الدخول في لعبة الرئاسيات يمكن أن تعطي ثماراً أفضل من التي حققها دخوله في الإعداد لقانون الانتخاب. فتجربة العمل على قانون الانتخاب النيابي، التي بدأت بها بكركي منذ آب عام 2011، لم تؤدي إلى أي نتيجة، لا بل أدخلت المسيحيين في بازار القانون الارثوذكسي، والمزايدات المارونية والخلافات السنية والشيعية حوله، فضلاً عن أن عامين من المشاورات واللقاءات ولجان العمل في بكركي، انتهت الى لاقانون للانتخاب، والأسوأ التمديد للمجلس النيابي من دون أي مراعاة لكلمة بكركي. ومن لا يذكر اتفاق روما في آذار الفائت، بين كل هذه المفاصل، واجتماع الراعي مع الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي، والتسويات التي قيل إنه تم الاتفاق عليها وأدّت في نهاية المطاف إلى التمديد للنواب؟
اليوم تحاول بكركي تكرار التجربة ذاتها، فتدخل الى الاستحقاق الرئاسي، من زاوية المرشحين الذين بدأت أسماؤهم تتداول في الاوساط السياسية، واضعة نفسها في مأزق جديد، ستكون الخسارة فيه هذه المرة أكثر حدة من التي لحقت ببكركي بعد التمديد للمجلس النيابي.
فالدخول في لعبة أسماء المرشحين ليس أمراً بسيطاً، في وقت تعرف فيه بكركي أن مصير الاستحقاق برمته على كف عفريت، وأن اختيار اسم الرئيس العتيد لم يعد من صلاحية الموارنة بعد ما مروا به منذ عام 1989 حتى اليوم، إضافة الى أن الخلافات المارونية تعصف مجدداً بالقيادات المارونية، على أبواب الانتخابات. وها هم القادة الأربعة الذين احتفل عند بدء ولايته بجمعهم تحت سقف بكركي مرشحون للرئاسة بطريقة أو بأخرى، وغيرهم أيضاً. فعلى من ستقع قرعة بكركي.
لا شك في أن اختيار الرئيس العتيد للجمهورية مهمة دقيقة، ويعوّل على اسم الرئيس الماروني الجديد لحفظ الاستقرار في لبنان. لكن اختيار الاسم ليس من صلاحيات بكركي، وهو أصلاً نتيجة خيارات وتوازنات دقيقة إقليمية ودولية. فلماذا إقحام الصرح في متاهات يعرف سلفاً نتيجتها. فللبطريركية المارونية دور حتمي في الرئاسيات، لكنه يتعدى إطار المرشحين، ليحدد المبادئ الوطنية العامة التي ترعى مثل هذا الاستحقاق. وهذا يعني إعلان التمسك بإجراء الانتخابات في موعدها وبلا أي تأخير، من دون الدخول في زواريب السياسة المحلية والرسائل المبطنة والمعلنة لهذا المرشح أو ذاك. ففي عز المناقشات حول قانون الانتخاب، قيل لبكركي في حينه إن الاهم هو موعد الانتخابات وليس القانون، ويجب إجراؤها حتى ولو بقانون 1960، لكنها رفضت وتمسّكت بفكرة الاتفاق الماروني على قانون واحد للانتخاب، فطار القانون وطارت الانتخابات.
اليوم ثمة تحدّ حقيقي بضرورة إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها، ومن دون تأخير، تحاشياً للفراغ ومهما كانت الظروف الاقليمية. ففي ظل المتغيرات التي تشهدها المنطقة، وتلازماً مع الاستحقاقات في الدول المحيطة بنا وأولها سوريا، يأخذ استحقاق الرئاسة اللبنانية أهمية مضاعفة، لجهة إجرائه في موعده، فلا يصبح الفراغ الرئاسي في كرسي الرئاسة والكرسي الماروني الأول أمراً بديهياً. وهنا دور بكركي المحوري، الذي يفترض أن يتركز على تأمين الاستحقاق، سواء عبر حملة داخلية ودفع النواب المسيحيين الى النزول الى المجلس النيابي لإجراء الانتخاب، والتواصل مع الكتل النيابية والطوائف الأخرى لتأمين الانتخابات حفاظاً على استقرار لبنان، أو عبر حملة خارجية لتسويق مبدأ إجراء الانتخابات، لا العمل لمصلحة مرشحين للرئاسة أياً تكن أسماؤهم. وهذا التحدي يضع بكركي مجدداً في مواجهة دورها التاريخي، لعلها تستطيع معها أن تعيد لنفسها بعض وهجها، بدل أن تراكم الخسائر.

السابق
الانتفاضات في مواجهة الفتنة: من يزوّر الصراع السياسي ولماذا؟
التالي
أمّ المعارك؟