ميقاتي لسليمان: لن أوقّع مرة ثانية ضد السعودية

بين ما شاع عن تعويم حكومة الرئيس نجيب ميقاتي وبين عودتها الى اجتماعات مجلس الوزراء بون شاسع فعلاً. أحدهما على طرف نقيض من الآخر. لا آلية واضحة ومجرّبة لتعويم حكومة مستقيلة في ظل الأحكام الدستورية المعنية بتأليف الحكومة واستمرارها واستقالتها. إلا أن رجوعها الى الاجتماعات الدورية شأن مختلف. يسبق التعويم شرطان ملزمان: أولهما اعتذار الرئيس المكلف عن عدم تأليف الحكومة أو سحب مجلس النواب ـــ ولا دور هنا لرئيس الجمهورية ـــ تكليفه إياه التأليف، وثانيهما عودة رئيس الحكومة المستقيلة عن استقالته. كلا الشرطين غير متوافر حتى إشعار آخر: لا الرئيس تمام سلام في وارد الاعتذار او إرغامه من الداخل عليه، ولا ميقاتي في صدد التخلي عن استقالته.
لا يمنح الدستور، كذلك، رئيس الجمهورية دوراً في إيجاد مخرج لمشكلة لم يسبق أن اختبرها اللبنانيون منذ اتفاق الطائف: على أبواب المهلة الدستورية لانتخابات رئاسة الجمهورية، رئيس مكلف يتعثر في التأليف، وحكومة مستقيلة مكبلة بالتكليف والاستقالة معاً. بإزائهما يجد رئيس الدولة نفسه مربكاً وهو يوشك على نهاية ولايته.
من حول هذا المأزق بضعة سوابق متفرقة منذ تطبيق اتفاق الطائف: اعتذر ثلاثة رؤساء مكلفين عن عدم تأليف الحكومة هم رفيق الحريري عام 1998 وعمر كرامي عام 2005 وسعد الحريري عام 2009 قبل أن يعاد تكليفه فيؤلف. استقالت حكومة الحريري الأب عام 1995 على أبواب الاستحقاق الرئاسي توطئة لأخرى تخلفها لتمديد ولاية الرئيس الياس الهراوي. تسلمت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة عام 2007 ـــ وكانت أضحت ممثلة الفريق الواحد بعد استقالة الوزراء الشيعة ـــ صلاحيات رئيس الجمهورية بانقضاء ولايته. وهي الحال المرشحة ربما لحكومة ميقاتي التي يُشكَّك في تمثيلها السنّي في حال أخفق انتخاب الرئيس المقبل. بيد أنها المرة الاولى التي تتجمع السوابق تلك كلها، دفعة واحدة، في واحدة على مسافة قريبة من انتخابات 2014.
ولأن دون تعويم حكومة مستقيلة عقبات دستورية شائكة يشترك في تذليلها تباعاً الرئيس المكلف والرئيس المستقيل، لرئيسي الجمهورية والحكومة تقدير اجتماعات مجلس الوزراء لحكومة مستقيلة ودعوته إليها تبعاً لجدول الاعمال المطروح أمامهما، وتحديد بنوده الملحة والموصوفة. يدخل هذا الاختصاص في صلب صلاحياتهما عملاً بأكثر من اجتهاد لمجلس شورى الدولة.
بيد أن تمييز التعويم عن معاودة الاجتماعات سياسي مقدار ما هو دستوري. وقد يكون الجانب السياسي أكثر تعقيداً لكليهما. في حصيلة شبه معروفة يتساوى الخياران: لا التعويم حاصل، ولا العودة الى اجتماعات مجلس الوزراء مؤكدة.
أما الاسباب فشتى، منها:
1 ـــ وفق ما ينسب الى رئيس الحكومة قوله للرئيس ميشال سليمان قبل ثلاثة أسابيع، وأعاد الاخير ترداده أخيراً أمام زواره، لا يبدو ميقاتي متحمساً لاتخاذ أي خطوة تنفّر السعودية. ما قاله لسليمان إنه لن يوقّع مرة ثانية ضد الرياض، في إشارة الى عدم رغبته في تكرار سابقة تأليف حكومته الحالية عام 2011 وتداعياتها، فلم تلقَ رضى المملكة وقاطعتها. لن يخطو تالياً في أي إجراء ـــ بما في ذلك إعادة تكليفه في حال اعتذر الرئيس المكلف ـــ يثير حفيظة السعودية أو يجده تصرفاً ضدها. وفي معزل عن اعتذار سلام، لا يبدو رئيس الحكومة في وارد العودة عن استقالته لأسباب سياسية ودستورية في آن واحد.
2 ـــ بدوره رئيس الجمهورية، وفق ما يورده مطلعون على موقفه، يعارض تعويم الحكومة المستقيلة، وينظر إلى خطوة كهذه ـــ لا يجيزها الدستور في أي حال ـــ على أنها خطيرة. تبدو الدوافع السياسية أكثر وطأة من الحجج الدستورية التي تمنع، لدى الرئيس، التعويم. بات على طرف نقيض من حكومة تمسك قوى 8 آذار بأكثريتها المطلقة، وهو في أسوأ مرحلة تمر فيها علاقته بـ«حزب الله». أضحى الرئيس متيقناً من أن الغالبية الحكومية تعدّه في صف الفريق الآخر مذ وجه انتقادات صارمة وحادة الى تورّط الحزب في الحرب السورية، وتتعاطى معه بعدائية مكشوفة.
منذ خطاب عيد الجيش في آب الفائت، ارتفعت تدريجاً نبرة مخاطبته «حزب الله» وتوجيهه ما يتعدى الاشارات السلبية الى الاتهامات المباشرة. بعض ما ورد في إدانته المتكررة إياه الانخراط في تلك الحرب ـــ وقد يكون معظمه ـــ ورد عفوياً في خطبه من غير أن يكون مدوّناً فيه على نحو خطبه المعدّة بعناية ودراية وبعد أكثر من مراجعة متأنية. ذاك ما ورد في خطاب الرئيس قبل أيام عندما رفض اتهام السعودية بأعمال التفجير بلا أدلة، فخرج على النص المكتوب بعبارات الممتعض. وورد في خطابه الاخير السبت بخروجه على النص مجدداً وتحدثه بلهجة غير مألوفة، حينما وجد في استمرار تورط «حزب الله» في سوريا تقويضاً مباشراً للدولة والهوية والوطن.
تعزّز المواقف المتتالية تلك الاعتقاد الشائع بأن الرئيس لن يترك البلاد ـــ قبل أن يغادر منصبه ـــ بين يدي حكومة تسيطر قوى 8 آذار على غالبيتها وقراراتها. بيد أن البديل لا يبدو بالضرورة بالسهولة المتوخاة.
بذلك يبدو الموقف المعلن لرئيس الجمهورية عدم حماسته لانعقاد مجلس الوزراء خارج نطاق الضرورة القصوى. يلاقيه فيه رئيس الحكومة رغم إيحاءات الساعات الاخيرة برغبته في بعث الروح في اجتماعاتها.
3 ـــ مع تأكيد أفرقاء الغالبية الحكومية أن الحكومة المستقيلة ستتولى مجتمعة صلاحيات الرئاسة الاولى عند تعذّر انتخاب الرئيس الخلف، لا يجد سليمان في المقابل في المخارج المتوافرة لتفادي شغور الرئاسة ما يمكنه من استعادة تجربة تأليف حكومة موقتة تنتقل إليها صلاحيات رئيس الدولة ويناط بها الإعداد لانتخاب الخلف. أوصد دستور الطائف دونها أبواباً كانت لا تزال متاحة مع سلفه الرئيس أمين الجميّل عام 1988، ومن قبل مع الرئيس بشارة الخوري ـــ صاحب السابقة ـــ عام 1952. فقد رئيس الجمهورية نهائياً اختصاص التكليف من دون العودة الى مجلس النواب صاحب القرار، ولم يعد يسعه التسليم سوى بالحكومة القائمة ـــ أو أخرى جديدة ـــ للحلول في صلاحيات الرئيس المغادر.
ومقدار ما يبدو التعويم مستحيلاً، فإن العودة الى حكومة انتقالية يرأسها غير سنّي ضرب من الوهم. وهي المشكلة التي يواجهها في آن واحد رئيس الجمهورية والرئيس المكلف في هذا الوقت، وحتى بدء المهلة الدستورية للاستحقاق الرئاسي في 25 آذار، في عدم مقدرتهما على فرض حكومة أمر واقع. وكانا قالا أكثر من مرة إنهما ليسا في وارد حكومة كهذه وصفها سلام بأنها تولد ميتة حينما يخرج منها وزراء طائفة برمتها. الأصح أنه يعصى عليها المثول أمام مجلس النواب لنيل الثقة، وكذلك انتقال صلاحيات الرئاسة الاولى اليها من دون حيازتها تلك الثقة.

السابق
ننحَر البلد إذا فشلنا في انتخابِ رئيس
التالي
اتجاه جديد للنظر إلى التهديدات الخارجية