تعلموا من دروس الماضي وتحركوا سريعا بشأن سوريا

رغم العبث الذي يشوب السياسة في الوقت الراهن، ربما يجدر بنا أن نتذكر أن الديمقراطية لا تزال تؤتي ثمارا. فقد كان تمرد مجلس العموم (البريطاني) في مايو (أيار) عام 1940. عندما امتنع عدد كبير من الأعضاء، رغم الفوز بالتصويت، بداية تغير شكل تاريخ العالم عندما حل وينستون تشرشل بدلا من نيفل كامبرلين في رئاسة الوزراء. عقب ثلاثة أسابيع من توليها مقاليد الأمور رفضت حكومة الحرب، بعد تسعة اجتماعات، اقتراح هاليفاكس وزير الخارجية بضرورة الدخول في مفاوضات سلام مع إيطاليا وتبع ذلك معجزة على شواطئ دانكيرك.

وفي صباح التاسع والعشرين من أغسطس (آب) 2013 لم يكن متوقعا أن يغير تصويت مجلس العموم على قصف سوريا في رد على استخدام الأسلحة الكيماوية من تاريخ الشرق الأوسط، ناهيك عن تاريخ العالم. وقبل ساعات من تصويت يوم الخميس هذا، كانت كل الرهانات لا تزال تشير إلى أن الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة ستبدأ قصف سوريا يوم السبت. لكن التصويت جاء على عكس رغبة حكومة المحافظين، كان امتناع 85 عضوا عن التصويت عامل الحسم في هذه النتيجة، ولم يكن أمام رئيس الوزراء أي خيار عدا رفض مشاركة المملكة المتحدة في القصف.

في السياق ذاته، قرر الرئيس الأميركي باراك أوباما يوم السبت، الحادي والثلاثين من أغسطس، بدافع من مصداقيته الكبيرة، الوثوق في الديمقراطية وطلب من الكونغرس تصريحا بقصف سوريا، وهو ما أثار رعبا واضحا لدى النخبة حول العالم التي ظلت على مدى عقود أسيرة فكرة تهميش وتحقير أي شيء، وباتت ضعيفة إلى حد أنها كانت تطلب من السياسيين المنتخبين ديمقراطيا اتخاذ رأي قاطع في شأن القضايا المتعلقة بالسلام والحرب. وفي غضون ساعات أوضح الكونغرس من خلال تصريحات أعضائه أنهم غير مستعدين للضغط على الزناد. وبحلول الخميس كان الرئيسان أوباما وبوتين يتحدثان في سان بطرسبرغ وفي اليوم التالي بدأ كيري ولافروف محادثات حول إمكانية التفاوض بشأن نزع السلاح الكيماوي في سوريا دون الحاجة إلى القصف.

يفصل بين هذين التصويتين 75 سنة. أحدهما أيد الخيار العسكري، لا الدبلوماسية، والثاني أعلى الدبلوماسية على العمل العسكري، لكن كلا التصويتين أكدا مبدأ واحدا وهو الخيار الديمقراطي.

كان حكم التاريخ على الخيار الأول أنه صائب دون أدنى شك، وسيحكم التاريخ على الخيار الثاني أيضا، أنه كان صائبا أيضا. ولن أستغرق في بيان التناظر بين القرارين أكثر من ذلك، إلا بالإشارة إلى أن أيا من القرارين ما كان ليحقق إنجازا لو لم تقرر روسيا والديمقراطيات الغربية في النهاية، التحالف في القتال، كما حدث في المثال الأول، وعقد مفاوضات مشتركة كما هو الحال في المثال الثاني.

من ناحية أخرى، لم تمهد مفاوضات باريس عام 1919 الطريق أمام اندلاع الحرب العالمية الثانية فقط، بل مهدت لعدد آخر من الحروب التي شهدها العالم منذ ذلك الحين لعل أبرزها ما شهدته يوغوسلافيا السابقة في الفترة بين عامي 1991 و1995 وما شهدته كوسوفو عام 1999. وحروب العراق الثلاث (الحرب العراقية الإيرانية 1980 – 1988، والحرب العراقية الكويتية 1990 – 1991 وحرب العراق 2003 – 2011) والآن سوريا.

وقد لقن التاريخ بريطانيا درسا مؤلما، أيضا، عندما ترددت في المشاركة في اتفاق التسوية في آيرلندا الذي دعمته الولايات المتحدة والذي أثبت صلابة، فقد اعتقدنا حينها أننا قادرون على حل مشكلاتنا بأنفسنا. بدأ جون ميجر التدخل الأميركي وكان السيناتور جورج ميتشل والرؤساء الأميركيون في الإدارات المتتالية ذوي قيمة بالغة منذ ذلك الحين. ولقد ندمت بشدة على عدم الاستجابة لطلب الرئيس الأميركي كارتر الذي عرض تقديم العون عندما كنت وزيرا للخارجية وجيم كالاهان رئيسا للوزراء، لكن على سبيل الإنصاف فقد عملنا سويا مع إدارة كارتر بصورة غير مسبوقة في أفريقيا، التي كانت تشعر أنها محمية استعمارية قديمة. وبدأنا العمل سويا عام 1977 بشأن ردويسيا الجنوبية (زيمبابوي الآن)، وجنوب غربي أفريقيا (ناميبيا الآن) وضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. ومساعدة الولايات المتحدة في إعلان أن العنصرية تهديد للسلام العالمي وللمرة الأولى استصدار قرار من الأمم المتحدة بفرض عقوبات.

ولقد أظهر التاريخ بالفعل أن الرئيس جورج بوش ارتكب خطأ فادحا في رفض عرض الرئيس الروسي بوتين بتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة في أعقاب هجمات 11 – 9. وكذلك عندما رفض المحادثات مع إيران عبر سويسرا عام 2003. ولربما كانت الأمور أكثر سهولة في حدوث انتقال سياسي ناجح بعد الغزو العسكري لأفغانستان والعراق لو أن هذه المحادثات حققت تقدما.

وأعتقد أن الأوضاع كانت ستسير إلى نحو أفضل لو أن مجلس الأمن الدولي تعامل مع الحرب الأهلية في سوريا، ولو أبدت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا استعدادا للتعامل مع المخاوف المشروعة لروسيا والصين بشأن العمل العسكري في ليبيا. ورغم رغبة كلتا الدولتين في القيام بذلك، لكنهما لم تستخدما الفيتو ضد قرار مجلس الأمن بشأن منطقة الحظر الجوي، لكن تفسيره كان مطولا.

هناك دروس مستفادة أيضا من تاريخ أكثر قدما بعض الشيء بشأن الوحدة في مجلس الأمن في وقت سابق عندما كانت الحروب الأهلية على وشك التفاقم. فكلما طال أمد الحروب الأهلية، استعصت على الحل. وكلما وضعت المزيد من العوائق، تعمقت الانقسامات العرقية، وبشكل خاص حيث توجد التوترات الدينية القائمة.

الدرس الآخر هو مدى ما يمكن أن يقدمه الوسطاء. فقد كان الرئيس نيكسون محقا عندما طلب من باكستان المساعدة في حل الخلاف مع الصين. وفي النهاية توصل المرشد الأعلى الإيراني إلى نتيجة مفادها أن لكل من سياسة التسوية والمواجهة حدودا موروثة وبدأ محاولة التوصل إلى اتفاق متبادل مع الولايات المتحدة، نشهد الآن أولى نتائجه، وأعتقد أنه سيشكل بداية لتراجع ذي مغزى عن سياسة المواجهة التي هيمنت في السابق. لكننا لسنا على حافة تحول واضح يستحق أوباما عليه ثناء كبيرا.

نحن في الديمقراطيات الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، كنا بطيئين للغاية في التوصل إلى تسوية للسلام في البوسنة والهرسك، وقد تضاعف ذلك الإرث، فقد حصل صرب البوسنة في خطط السلام المتعددة على نصيب أكبر من الأراضي التي استولوا عليها خلال عامين ونصف من 1983 إلى 1985. يجب علينا نحن والولايات المتحدة أن نبذل مزيدا من الجهد في تنفيذ اتفاق دايتون. وفي كوسوفو التي تضمنت ثمانين يوما من القصف المتواصل لطائرات الناتو على أهداف صربية، لا نزال في الديمقراطيات الغربية غير مستعدين للإقرار بأن مبادرة الرئيس يلتسين الدبلوماسية التي أسهمت في إنهاء الحرب في وقت مبكر عما كان متوقعا في ظل استمرار القصف أصبحت بعيدة كل البعد عن التبرير الإنساني الأولي.

هناك دروس قاسية أعتقد أنها لا تزال مثيرة للجدل. فسجل التدخلات التي قامت بها الديمقراطيات الغربية منذ النجاحات المتعددة الأطراف التي بدأها جورج بوش الأب في الكويت كانت عظيمة، إذا كيف ينبغي علينا جميعا أن نسهم في التوصل إلى تسوية سريعة بشأن سوريا؟

مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لا يزال نشطا. وعامان من المواجهة بين الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن بشأن سوريا فضيحة بحق هذه الدول، فقد أسهمت كل هذه الدول في وقت ما في غياب الحوار الوطني. ومن ثم لا بد من عدة أمور:

الأمر الأول، الحرب الأهلية غير خاضعة للسيطرة. ولن يتحقق أي إنجاز ما لم يتضح ما سيجري في المعارك المستعرة في ضواحي دمشق. ليس هناك تهديد بتوسيع الحدود، لكن خطر الانتشار خارج سوريا حقيقي. ولعل ذلك هو السبب في الحاجة إلى عقد مؤتمر إقليمي في الشرق الأوسط حول سوريا يبدأ في جنيف في الثاني والعشرين من يناير (كانون الثاني).

الأمر الثاني، هو ضرورة إشراك إسرائيل وإيران لأن هاتين الدولتين تسعيان إلى تحقيق الأمن الإقليمي.

الأمر الثالث، هو أن الآن أفضل من وقت لاحق، وسيكون من الأفضل التفاوض في المنطقة. ويجب أن تعترف المنطقة بهذه التسويات التي تم الاتفاق عليها. ويجب أن يشارك الروس والأميركيون في رئاسة هذه المفاوضات يساعدهم في ذلك فرنسا والمملكة المتحدة. وتستطيع الصين لعب دور بارز نظرا لحاجتها إلى نفط الخليج ويمكنها أن تكون صاحبة نفوذ واسع. لكن القرارات الواضحة ينبغي أن تنشأ من المنطقة. كما ينبغي أن يتمتع الأخضر الإبراهيمي المبعوث الخاص للجامعة العربية والأمم المتحدة بالحرية في البحث عن الحلول دون شروط مسبقة. ويجب أن تطرح كل القضايا المتعلقة بالتقسيم أو الوحدة، ورحيل الأسد أو بقائه ومشاركة المحكمة الجنائية الدولية من عدمها، ومبعوثي الشؤون الإنسانية بمرافقة عسكرية أم من دونها، كل هذه القضايا الخلافية بأكملها على الطاولة. بل ينبغي أن يكون هناك إحساس بالإلحاح من مجلس الأمن.

* وزير الخارجية البريطاني الأسبق

السابق
الشرق الأوسط: حرب بيانات ومواجهات مع الجيش اللبناني تعيد إشعال جبهة طرابلس
التالي
الأزمة المنسية في جمهورية أفريقيا الوسطى