انتفضت على زوجها قوّادها

دعارة
انه موضوع مؤثر جدا لذلك قررنا ان نعيد نشره من السفير لتعميم الوعي حول هذا الموضوع.

اختارت لنفسها اسماً وهمياً، لمى، لتفصل بين عالمين فرض عليها الوجود بينهما. ملامحها لا تُظهر سنّها، وجهها بيضاوي ذو جفنين داكنين، عمرها سبعة وعشرون عاماً. كان اسمها لمى حين وقفت للمرة الأولى على أوتوستراد الدورة – جل الديب تنتظر زبوناً يدفع مئة دولار مقابل ممارسة الجنس. لم تختر حينها سوى اسمها المستعار.
بعد ثماني سنوات على الحادثة، تستحضر الليلة الأولى بالألم نفسه. ارتجف جسمها ما إن دخلا غرفة الفندق في الفنار، شعرت أنها تهوي، استلقت على السرير، لم تتحرك، وانفجرت بالبكاء. مارس معها الجنس، وهي لم تفعل. ظلّت ترتعش حتى انتهى من متعته، تركها في السرير عاريةً وغادر. وحيدةً كانت، تلملم أطرافها المتناثرة. حاولت العودة. تاهت. لا تعرف من العاصمة إلا القليل منذ قدومها من قريتها. وصلت إلى منزلها في النبعة، أعطت زوجها المال. وانزلقت في الفراش تحتضن جسدها الممزّق.
الرضوخ اوالسجن
«هيك بلّشت قصتي»، تقول وهي تخبئ رأسها بمنديل زهريّ. كانت تعيش حياة تقليدية بسيطة في البقاع مع زوجها، هو يكسب القليل كمياوم في ورش البناء، وهي تكتفي بالمتاح كمدبرة منزل. أحبته وتزوجته خطيفة في عمر التاسعة عشرة. «كانت السنوات الثلاث الأولى جميلة، لكنها لم تستمر»، تلفظها وتتسرب من وجهها ابتسامة مفتعلة. ضاقت أحواله المادية، وقرّر الانتقال إلى بيروت للبحث عن عمل. لم تتخيّل ما كان ينتظرها.
في بيروت، فاتحها بالأمر. بدا متوتراً يتلعثم بكلماته، يُلمّح أكثر مما يقول جملاً كاملة المعاني. «اريدك أن تساعديني قليلاً، لا احب أن تسلكي تلك الطريق، ولكن انظري إلى حالنا. انظري إلى ابنتنا. ليس لدينا أحد نلجأ إليه. صدقيني لا احد سيعرف الأمر، حاولي الحصول على المال من دون أن يلمسك احد»، استنجدها باكياً. ذُهلت بما سمعته، وكأن غشاوة استقرت أمام عينيها لتفصلها عما يحيط بها، فيتوقف الزمان.
كان أخوه قواداً لزوجته فأقنعه بـ«فعالية» تلك المعادلة. عاود محاولات الاقناع. رفضت لمى نهائياً، مقترحةً عليه البحث عن وظيفة. لم يحتمل الرفض، صفعها وانهال عليها بالضرب. ظلّت تكرّر العبارة نفسها: «ما بقدر، ما بقدر» حتى أمسك بابنته، التي لم تكمل عامها الأول، ولكمها بقسوة على رأسها، فأُصيبت بحول في العينين. وأخذ يرمي حليب الطفلة بهستيرية على الأرض ويدهس عليه مهدداً: «فرجيني لما تجوع، كيف بدك تطعميها». ارتعبت، انكسرت، واستسلمت لسلطته. «ما كان الي حدا فترتها، اهلي نكروني بعدما اخذته خطيفة»، تحكي بإيقاعها البطيء. لم تجرؤ على محادثتهم في الأمر، خوفاً من عمليات الثأر المتبادلة بين العشائر البقاعية. «لدي خمسة أخوة، ولست مستعدة أن اخسر أحداً منهم».
لم تعد تعرف النوم. تتقلّب، تبكي، تشعر بالهذيان. صور ليلة الفنار تحاصر سريرها. رفضت «الخروج» مرة أخرى. صارت نسيبتها تدس لها الحبوب المخدرة في المشروبات، لتتأقلم مع واقعها الجديد. ظلت لأشهر لا تعلم بالأمر، إلى أن أصابها انهيار عصبي بعد انقطاعها عن تناول المخدرات خلال عدوان تموز 2006. دخلت المستشفى، واكتشفت انها مدمنة. توقف زوجها نهائياً عن العمل، وعن البحث عنه. أصبح جسدها مصدر رزقه الوحيد. كان يطلب منها يومياً «الخروج إلى الشارع»، وهي تجيبه بكلمتين بسيطتين «ايه هينة». استنفد طاقتها على الرفض… أو بالكاد.
لم تجد سوى السجن وسيلةً للرفض. سلّمت نفسها لمكتب الآداب في مخفر حبيش. فوجئ الشرطيّ بطلبها، لكنها بدت حاسمة: «لن أعود إلى منزلي، انت لا تعرف عني شيئاً، صدقني السجن أسهل عليّ». لم تعد تملك شيئاً تخشى خسارته. كانت تسعى لانتزاع حيّز خاص لها، لم يكن متوفراً إلا في الزنزانة. قبعت في السجن لأشهر. مكانٌ لا أحد يستبيح فيه جسدها، أكان زوجها أم عابر سبيل، في المنزل كما في الشارع. والسرير الزوجي يبقى الأشد ألماً. «لم أعد احتمل أن يلمسني زوجي بعد كل ما حصل، كان يُرغمني على ذلك»، تنطقها وهي تحني رأسها خجلاً.
لم تقوَ على المواجهة. كانت تبتكر أدواتها الخاصة للرفض، غير المرئية منها. تقوم بأي عمل يساعد على التخلي عن جنينها: ترمي نفسها من السرير، تلكم معدتها، تركض وتقع أرضاً. أي عمل يسهّل عملية الإجهاض. «لم أتقبل الإنجاب منه، كنت أتورط وأولادي بحياة قذرة». أدوات رفضها تلك، بسجن الذات او إيذاء الجسد، كانت إحدى وسائلها لمحاربة الواقع… ومحاولة الوجود.
تمرد
لم تفقد ذاتها بالرغم من استباحة الجسد، لعلّ ذلك ما جعل زبوناً يقع في حبها. تعرفت إلى كريم (اسم مستعار)، على الطريق. توقف بسيّارته أمامها والتقت عيناهما: «اطلعي». تجاهلته وتابعت سيرها مشياً. «اطلعي نشرب شي». لا تعرف لماذا رفضت مرافقته، ظل يحاول لأكثر من نصف ساعة. «شوفي الناس كيف عم يطلعو، اطلعي جرصتيني». ركبت معه، اتفقا سريعاً على المبلغ، وانطلقا إلى الفندق. حاول التحدث إليها، لم تبادله إلا الصمت. في السرير، كانت جسداً هامداً بوجه صامت. «لا اعرف ماذا أصابه، بدا شديد التأثر». لم تتفاعل معه، أخذت منه المال ومضت. صار ينتظرها يومياً في المكان نفسه. في المرة الثالثة سألها مُلحاً: «شو عم تعمل إنسانة مثلك على الطريق؟». أدارت وجهها وادمعت. «انا فهمان عليكي». أصرّ على التحدّث معها. «ما إلك علاقة بقصتي، أنا طلعت معك كرمال شي معين»، أجابته بنبرة حادة. كانت تضطرب حين يسألها أحدهم عن قصتها، وكأن التواصل بحدّ ذاته يُذكّرها بإنسانيتها المفقودة، بعد تكيّفها مع واقع موجع.
أمسك بيدها وقال لها بحسم: «سأعطيك المال، ولا أريد ممارسة الجنس معك. أريد التعرّف عليك فقط». تحدثا لأكثر من خمس ساعات، سألها عن الرجل الذي يكلّمها مراراً. رفضت الإفصاح عنه، طرح السؤال نفسه بصيغ مختلفة. «زوجي»، أجابته بصوت متردّد. تضاعفت صدمته حين عرف أن زوجها يجبرها على بيع جسدٍ يحمل جنينه. «كان يغصبني على الشغل حتى وأنا حامل»، ثم تستبق السؤال المتوقع: «أولادي جميعهم من زوجي».
حضنها بقوة، وطلب منها الاتصال به كلما أُجبرت على «الخروج». انتفضت قائلةً: «جرت مع رجل من قبل ولا أريدها أن تحصل معك». سعت إلى إبعاده عنها. صارت تُعطي موعداً وهمياً لزبون في حضوره، او تتجاهله وهو ينتظرها لساعات على الطريق. «انا ما بستاهلك، وما بسامح نفسي إذا دمرت حياتك»، قالت له. ردّ عليها وهو يحرّك يديه غضباً: «انت ما بدك تفهمي، انا شايف إنسانة امامي، وإنسانة حبيتها».
حب
في ذهنها طغى مشهد سابق، لا تريد تكراره مع كريم. ارتبطت عاطفياً بزبون سابق ثلاث سنوات، شجعها على العزوف عن ممارسة الدعارة سنتين. كانت تلتقي به سراً، يعطيها المال الذي يتوقعه منها الزوج كل ليلة. ومع دخول زوجها السجن بجرم الاتجار بالمخدرات، وجدت وظيفة في إحدى المؤسسات الاجتماعية وبدأت تعالج نفسها من المخدرات. لم تكتمل خطواتها الأولى. مع خروجه من السجن، عادت إلى الشارع مكرهةً. لم يقبل بالأربعمئة دولار شهرياً من المؤسسة، في الوقت الذي يمكنها أن تكسب مئة دولار يومياً «من الشارع». هدّدت عودتها إلى الدعارة علاقتها به: «انفصلنا لأنني تعبته كتير، ما اقدرت اتحمل الذنب».
لكن حبها كريم كان أقوى منها، في وقت ازدادت فيه وحشية الزوج. شعرت بالهشاشة. خافت من تطوّر مشاعرها تجاه كريم، وقرّرت التواري عنه. أقامت مع أولادها عند بيت أحد أقربائها في الجنوب. «حتى لما ابتعدت عنه، كنت اشتاق إليه كثيراً». لم تكن وحدها تفكر فيه، بقي أسابيع يبحث عنها. كأفلام العشاق القديمة، وقف مع بداية الصباح عند مفرق المنزل بانتظار رؤيتها. فوجئت بصغيرتها تخبرها بحماسة: «شفت رجال كبير وعنده شوارب»، ثم همست في أذن والدتها: «عمو كريم برا وقال إنه لازم يحكيكي ضروري».
لم تنسَ وجهه ذاك الصباح مشحوناً بالعتب: «ليش عملتي هيك؟ بدي اتزوجك لمى». كان وقع كلماته القليلة هائلاً عليها. ظل صامتاً لثوان يُحدق بوجهها المبلّل بالدمع: «لا أريد أن تغيّري حياتك من أجلي، بل من أجلك أنت». نظرت إليه بخيبةِ من لا يعرف معاناة الآخر وظروفه: «أنت لا تدري شيئاً، لا استطيع الطلاق».
إمكانية التغيير تعيقها هواجس لا تنتهي. خشيت من زوجها، ومن تهديداته بانتزاع أولادها منها بعد دخولها السجن بجرم الدعارة. أقنعها كريم بالعودة إلى بيروت لمناقشة إمكانية الحل. فالحب بحدّ ذاته لم يكن حلاً، ولا إرادتها وحدها تكفي. بدت محاصرة من زوجها وعائلتها والعشيرة والقوانين والمحاكم. «وصلني كريم بجمعيات حقوقية، أمّن لي محامياً وطبيباً نفسياً، واستأجر لي غرفة آمنة». تضيف: « كان هاجسي الأساسي إبعاد أولادي عن زوجي، خصوصاً الفتيات». أجبر كريم زوجها على إدخال الأولاد إلى مدرسة داخلية، عن طريق شخص نافذ ضغط عليه. لم يأتِ المخرج من سياقه العام، بل من ضغوط فردية عبر حزبيين وجرعات مساعدة من جمعيات. فقصة لمى لا تتخطى في المعالجة، إن حظيت بذلك، إطار الضحية الفرد. تحمل قصتها وجوه كثيرات، وإن بدرجات متفاوتة. قصة من فقدت حاضنتها الاجتماعية، قصة من حرمت من سيادتها على نفسها وعلى جسدها، قصة من خشيت ثأر العشائر، وقصة من ظلمتها القوانين الطائفية والمحاكم.
غادرت لمى منزل زوجها، وهي تتأرجح في المحاكم الشرعية منذ أكثر من سنة، طالبةً الطلاق وحضانة أطفالها. لا تزال تعيش قصة حب مع كريم، وإن توقفت علاقتهما الجنسية. فالجـــــنس يُهدّد باستحضار المــاضي، حـــتى لو لم يعــــد اسمها لمى.

السابق
الشهال الغى الاعتصام الذي دعا له تلبية لدعوة هيئة العلماء المسلمين
التالي
ميقاتي بحث مع خليل شؤون وزارة الصحة والأوضاع السياسية الراهنة