النزاع الإيراني – السعودي يضغط على لبنان

في الأساس استمرّت المملكة العربية السعودية في مواقفها السياسية العالية السقف متجاهلةً التفاهم الذي بدأ بين الولايات المتحدة الاميركية وإيران، والذي دفع بقطر إلى المباشرة بتنفيذ انعطافة حادّة، وبالإمارات الى تليين مواقفها أكثر.

وجاء تأجيل انعقاد مؤتمر “جنيف -2” لفترة بعيدة نسبيّاً بناءً لطلبها كونها تعارض المشاركة وفق موازين “الميدان” الحالية. فهي تسعى الى تعديل في ميزان القوى يسمح لها بتحسين شروطها في سوريا ولضمان نفوذ كبير في لبنان من خلال تطويق وتحجيم حزب الله الذراع العسكرية القوية لإيران.

وصحيح أنّ هجوم “الغوطة” المركّز والمدروس فشل في تحقيق أهدافه، إلّا أنّ هذا لا يحدّ من طموح المملكة الى ترتيب مفاجأة عسكرية أُخرى.
في اختصار، إنّ الرياض لن تفتح ابواب التواصل مع ايران قبل تحسين شروطها الميدانية، على الرغم من المرونة الواضحة التي تبديها الرئاسة الايرانية، ما دفعها الى إيفاد وزير خارجيتها الى قطر والإمارات.

وفي الاساس أيضاً كان الرئيس الايراني حسن روحاني قد رتّب رؤيته الخارجية على أساس تحقيق النقلة في اتّجاه واشنطن من دون إثارة الرياض، وهكذا تردّد بقوّة أنّه نظّم بدقّة زيارته للسعودية من خلال إشباع الملفّات درساً، وحمل “هدايا” للقيادة السعودية وشكّل وفداً من شخصيات معروفة بعلاقتها الجيّدة مع شخصيات سعودية مثل رئيس الأمن القومي الجنرال شمخاني.

لكنّ السعودية كانت تنظر إلى المسألة من زاوية مختلفة، فهي كانت ترى في المرونة الإيرانية مصلحة سياسية لانتزاع إقرار من المملكة بالتفوّق الإيراني في سوريا وفي لبنان لاحقاً.

وبعيداً من الدعم اللوجستي الغربي -انطلاقاً من الأردن- للفصائل السورية المعارضة والتي تسعى الى تحقيق انتصار ميداني في دمشق، استمرّ الرهان السعودي على اختراق الجدار الروسي الصلب الذي يشكّل سنداً هائلاً للنظام السوري.

وجاء الباب المصري مدخلاً لا بأس به، حيث أبلغت الرياض الى موسكو أنّها مستعدّة لتمويل كلّ صفقات السلاح لمصلحة الجيش المصري طوال السنوات المقبلة. ذلك أنّ موسكو كانت تئنّ من التراجع الكبير في حجم صادراتها من الأسلحة الحربية، وهو ما يجعل مصانعها العسكرية شبه مشلولة.

وأرادت السعودية أن تنفّذ هذه الصفقة ما بين موسكو والقاهرة لاعتبار آخر وهو محو الآثار السلبية لما نتج عن الزيارة الأولى للأمير بندر بن سلطان الى العاصمة الروسية. يومها فسّرت القيادة الروسية بنحو سلبي كلام رئيس الاستخبارات السعودية حول استعداد بلاده للمساهمة في جهود إنجاح دورة الألعاب الاولمبية وقطع الطريق على الشيشانيّين من القيام بأيّ أعمال إرهابية.

وجاءت زيارة بندر الثانية لموسكو بعد أقلّ من أربعة أشهر لإزالة سوء الالتباس الذي حصل، وللبناء على مساحات التعاون المشتركة التي يمكن أن تجمع البلدين. لكن موسكو التي انتزعت تكريساً كاملاً من الاميركيّين كما السوريين والايرانيين لدورها في المنطقة، استمرّت على ثوابتها السورية، خصوصاً لجهة استحالة إنجاح مؤتمر “جنيف ـ 2” من دون مشاركة الرئيس بشّار الأسد والإقرار بموقعه كرئيس لسوريا “على الأقلّ في المرحلة المنظورة”.

وفي لبنان ارتفعت الحماوة بالتزامن مع التطوّرات الميدانية في سوريا والمستجدّات السياسية بين إيران والولايات المتحدة.
وفيما جهدت واشنطن، وكذلك العواصم الاوروبية، في التأكيد لطهران أن ليس هنالك من علاقة للسعودية في التفجير الذي استهدف السفارة الايرانية، إذ إنّ “القاعدة” هي عدوّة للمملكة كما لإيران وللغرب، كما أنّ السعودية لم تستهدف يوماً إيران بنحو مباشر.

إلّا أنّ كلام الأمين العام لحزب الله عبّر في وضوح عمّا تعتقده إيران، لا بل إنّه حمل في خلفية كلامه وجود نيّة واضحة بالردّ على النار بالنار. ذلك أنّ الاوساط الديبلوماسية الغربية سمعت كلاماً واضحاً بأنّ الترابط الهرمي ما بين منفّذي الاعتداء على السفارة الإيرانية وتفجيرات الضاحية قد لا يكون مباشراً ولكنّه موجود في مكان ما على المستوى العالي، وعلى طريقة تبادل الخدمات.

وإزاء هذا المناخ، كان من الطبيعي أن تنفجر الأوضاع ميدانيّاً في لبنان من خلال جبهة القتال التقليدية في طرابلس، خصوصاً أنّ الاحتقان المذهبي بلغ الذروة ما بين توجيه أصابع الاتّهام في مسألة تفجيري طرابلس واستهداف علويّين وتفجير محالّهم التجارية.

وفيما الاتّهام الأوّل ذهب في اتّجاه المخابرات السورية، على أساس أنّها “المسؤولة المباشرة” عن سيارتَي طرابلس، جاء الاتّهام الثاني ليطاول جهازاً يرصد حركة العلويّين داخل عاصمة الشمال ويزوّد المسلّحين المعلومات.

وقيل إنّه أمام هول الأوضاع في طرابلس، حصلت اتصالات خارجية مهّدت الطريق لاتّخاذ القرار بوضع المدينة تحت رعاية الجيش.
لكن هنالك من يتحدّث عن وجود خطوط حُمر لن يتمّ تجاوزها، ما يعني أنّ الجولة 19 قد لا تكون بعيدة. وما عزّز هذا الاعتقاد التحرّك المفاجئ والمريب للأمن في المخيّمات وسط معلومات رسمية عن الاشتباه بحركة غير طبيعية تتولّاها العناصر والمجموعات الفلسطينية المتطرّفة. إشارة قرأ فيها كثيرون ما يشبه التحذير من التمادي في إجراءات الجيش، وإلّا فإنّ جبهات كثيرة قد تشتعل دفعة واحدة.

لأجل كلّ ذلك لا تبدو الأوضاع متّجهة إلى تهدئة ما، لا بل على العكس، أقلّه خلال المرحلة المقبلة، ما يؤكّد أنّ النزاع الايراني ـ السعودي قد يكون قيد الاستعداد لجولات أُخرى لن تستثني الساحة اللبنانية، قبل أن تنضج ظروف التواصل. ولكنّ الأصعب بالنسبة الى لبنان هو تلك الاستحقاقات الداهمة، حيث يفكّر البعض بحكومة “أمر واقع” في شباط، وهو ما يخيف كثيرين، وعلى رأسهم النائب وليد جنبلاط، كون ذلك سيدفع البلد إلى الانفجار.

السابق
من هو حسان اللقيس.. وكيف اغتيل؟
التالي
إسرائيل تتنصل… وإعلامها يحتفل