أحمد بيضون: أزمة الهوية بين الانتماء الوطني والمذهبي

استضافت مؤسسة الإمام الحكيم ضمن نشاطات “منتدى الأربعاء” الدكتور أحمد بيضون في لقاء حواري تحت عنوان “أزمة الهوية بين الانتماء الوطني والمذهبي” شارك فيه حشد من الشخصيات الفكرية والثقافية والسياسية..

قدّم اللقاء المحامي الأستاذ بلال الحسيني الذي عرض لإشكالية الهوية والانتماء في لبنان والدول العربية مشيراً إلى أن معالجة هذه الإشكالية تتطلب بحثاً صريحاً وعميقاً من أجل الوصول إلى أجوبة حقيقية.. وعرض لأبرز التحديات والتطورات التي حصلت في الدول العربية والتي انعكست على قضية الهوية والانتماء.
ثم تحدث الدكتور أحمد بيضون ومما قاله: “.. وفي زماننا هذا أصبح أول وصف يجري على اللسان، إذا ذكرنا الهوية، أنها مركبة، والإنسان ينتسب إلى جماعات كثيرة وبعضها طبيعي وبعضها مكتسب وطوعي وعرفي.. وتتشكل هوية المرء من تداخل هويات كثيرة..
وعندما نتأمل هويتنا الوطنية وننظر في العلاقة بينها وبين هويات أخرى كالانتماء العشائري أو الطائفي أو المناطقي أو المذهبي كثيراً ما نذهب إلى افتراض المغالبة والمفاضلة بين هويتين، فنقول مثلاً “إن مصلحة الوطن يجب أن تعلو على مصلحة الطائفة”، أو يقول بعضنا “إن تضامن الطائفة أعلى من مصلحة العشيرة”، ومن خلال ذلك تبدأ الإشكالات والخلافات، وفي بعض الأحيان تظهر مساحات مشتركة للهويات”..
وأضاف الدكتور بيضون: “في الأزمات تبرز الإشكالات بين الهويات المتعددة، وأن تفضيل الانتماء الوطني على الانتماء الديني أو المذهبي يعود للجانب السياسي الذي يلزم تقديم الوطن على الطائفة والمذهب.. لكننا اليوم نواجه حالة معاكسة حيث يتقدم الانتماء للطائفة والمذهب على الانتماء للوطن، ويتم استثمار المذاهب في التنافس بين الدول، مما يؤدي إلى تعريض مكاسب الوطن والانتماء الوطني للخطر يهدف لتحصيل منافع مذهبية أو مناطقية..
وهذا الاشتراك التنافسي بين الوطن والطائفة والمذهب يظن البعض أنه قدر لا يرد، وهذا أمر غير صحيح..
وأضاف الدكتور بيضون: واليوم يفجؤنا مشروع الدستور المصري الجاري مناقشته إذ ينصّ على منع إنشاء أحزابٍ سياسية ذات منطلق أو أساسٍ ديني. فنحن قد لا نعلم أن كثيراً من الدول (وبينها مصر قبل ثورتها الأخيرة) نَحَت هذا المنحى. وهي دولٌ ليست كلها صغيرة أو متوسطة أو ذات علاقة مشكلة بالديمقراطية. وهذه أوصاف يتمثّل بعضها أو كلّها في الجزائر والمغرب وبوركينا فاسو وكازاخستان، إلخ. بل نحن نحصي بين هذه الدول واحدة هي روسيا تجمع إلى العضوية في نادي الدول الكبرى زعم الديمقراطية. وقد تجب الإشارة إلى أن رئيس فرنسا نفسه صرّح، قبل أشهر قليلة، بسريان هذا المنع في بلاده مع ما هو معلوم لبلاده من العراقة الإجمالية في رعاية الحريات. ولكن علينا أن ننوّه أيضاً بأصوات انبرت منكرةً هذا الأمر، تسند إنكارها إلى وجود حزبٍ صغير، في فرنسا، لم يبْدُ أن حمله اسم الحزب الديمقراطي المسيحي جعل السلطات تبدي رغبة ما في حلّه. عليه بقيت مسألة المنع أو عدمه معلّقة. ولعلّ العزوف الشعبي العامّ، في فرنسا وفي دولٍ أوروبية أخرى ذات تراثٍ ديمقراطي راسخ، عن اتّخاذ الدين أساساً للانتظام السياسي هو ما يفسّر الاستغناء عن الحسم الصريح، في القوانين، للمسألة التي أبرزتها المواجهة بين رئيس فرنسا ومعارضيه. ولعلّ تنامي الإسلام السياسي ذي الصفة النضالية في هذه الدول هو ما راح يفرض جدلاً لم يكن الداعي إليه ماثلاً حتى عهدٍ غير بعيد.
وتابع الدكتور بيضون: قبل سنوات كثيرة اقترحت اسماً للمساق الذي يصل بالعضو في المجتمع المتّخذ صورة الدولة إلى حالة المواطنة. اقترحت تسمية ذلك المساق “عمل التجريد السياسي”. وقد كان لا بدّ من إظهار هذا المساق بتسميته ووصفه لإبراز صفته التاريخية: أي اختصاص مرحلة من التاريخ به لم يكن متحصّلاً قبلها وافتراض شروط بعينها يحققها هذا المساق فتتحقّق معها صفة المواطنة ويتبدّى أنها صفة اختصت بتوفير إمكانها هذه المرحلة التاريخية نفسها.
وقد ضربتُ مثلاً لاختلاف حالة المواطنة عن حالة أخرى سبقتها إلى الوجود وبقيت موجودة معها عنوان كتاب للداعية المصري خالد محمد خالد ظهر قبل نيف وستين سنة. عنوان الكتاب “مواطنون لا رعايا”. وهو يشير إلى أنظمة كانت العلاقة فيها بين الحاكم والمحكوم علاقة بين الراعي ورعيته. وهذه علاقة تبدو ملتبسة ولكن يظهر أن علينا قبول هذا الالتباس مفترضين مطابقته الواقع بوجهيه. فالرعية يرعاها الراعي أي يدبّر شؤونها. والرعية تُرتعى أيضاً أي تؤكل أو يستحوذ على خيرها، في الأقل، من جانب من هي رعية له.
وأوضع الدكتور بيضون: معنى هذا أن التجريد السياسي الذي تحدثنا عنه تقتضيه “ولادة المواطن”، بما هو “الذرّة” السياسية للأمّة، لا يبلغ مداه إلا في الدولة الديمقراطية وأن حصوله، في الآن عينه، شرط ولادة هذه الدولة، في التصوّر العام، والركن الركين لإنشاء دستورها. وذاك أن المواطن ما هو بالشخص الحسّي وإنّما هو تصوّر وقيمة يعمّان الأشخاص الحسّيين المندرجين في دولة-أمّة بعينها. فيحكمان نظر القانون، ونظر القائمين على وضعه وعلى تطبيقه بالتالي، إلى هؤلاء الأشخاص الحسّيين، أفراداً وجماعة قومية، وإلى أعمالهم وأحوالهم وصور انتظامهم وانتظام هذه الجماعة بهم، بما هي جماعة سياسية، أي دولة. هذان التصوّر والقيمة يحكمان نظر القانون إلى الجماعة أيضا بما هي جماعة مدنية أي كثرة من الأحوال والأوضاع والمصالح والمواقف إلخ.، تدبّر وفقا لقيم وقواعد متفق عليها. وإذا كان المواطن هو الإنسان الفرد بما هو عضو في الأمّة، فإن “اختراعه”، أي تخليصه من الإنسان الطبيعي، كان يقتضي “اختراعا” آخر هو اختراع الإنسان-الفرد نفسه، أي تخليصه، بما هو عضو في الجماعة المدنية، من ربقة التبعيّة والولاء التلقائيين لجماعات الأصل والتقليد التي يولد فيها حكماً. هذا التخليص يرادف، في واقع حاله، عمل تحرير للفرد تكفله الدولة-الأمّة، قوانين وأنظمة وأعرافاً، بمقدار نصيبها من الديمقراطية. وهي تيسّره وتجعل تعميمه (أو غلبته، في الأقل) أمراً متاحاً، بما هي “مجتمع” لبشر أحرار.
وتابع بيضون: يتبدّى من هذا الباب أن المواطن، بتمام معناه، والدولة الديمقراطية متكافلان. فهذه الدولة هي الضامن لتحقّق المواطن فيما هو، من جهة تكوينها النظري، أصلها نفسه. لذا جاز أن تستعمل عبارة “الدولة الديمقراطية” وعبارة “دولة المواطنين” بمعنى واحد. ويتبدّى أيضا أن الدولة الديمقراطية إنّما هي دولة القانون لا دولة الاستغناء عنه أو الزوغان منه. وذاك أن القانون، إذ يراعي المبدأ الديمقراطي، أي مسؤولية المواطنين أنفسهم، ممثّلين بالسلطة المنتخبة، عن سنّه، يفترض فيه أن يحمي الحرّية وأن يحدّها في فعل واحد. فهو إن لم يحدّها لم يكن له أن يكون عمومياً فيحمي حريّة العموم. وهو إن اكتفى بحدّها وأسقط حمايتها من حسابه، في شأن من الشؤون، نحا نحو الاستبداد ولم يكن ديمقراطياً أصلاً. بل إن أنظمة الاستبداد، لا الأنظمة الديمقراطية، هي التي قد تتوخّى الفراغ أو النقص والغموض في بعض مجالات التشريع، وذلك لتترك الباب مفتوحاً أمام الاعتباط والتعسف .
وختم بيضون: فإن الثبات الذي تفترضه الهوية لنفسها في عالمٍ متغيّر لا يلبث تغليبه أن يستوي مصدر توتّر واضطراب يظهران أوّل ما يظهران عادةً في صفوف الجماعة التي تسمّيها هذه الهوية. هذا فيما يسع الجماعة الوطنية أن تستهدي مثلاً راهنة الصلاحية وأهدافاً ذات تصميم عملي لا يضيرها أن تتحرك وتتغير حين تقتضي ذلك مصلحة وطنية وتعبر عن هذا الاقتضاء إرادة مركّبة وغالبة. على أن في وسعنا الإشارة إلى سمة ميّزت ربع القرن الأخير في نطاق العالم، وهي النزوع إلى إضعاف الدولة وتجريدها من وسائل كانت تستقطب لها ولاء المواطنين. وذاك أن الدولة، وهي عرضة لمنافسة أقطاب جاذبة أخرى قد ينازعها بعضها النفوذ من الداخل وبعضها من الخارج، لا تشدّ إليها مواطنيها بالنشيد وحده أو بما جرى مجراه. وإنما يقتضي حفظها لولاء المواطنين ان يكون لها حضور في وجوه مختلفة من حياتهم: في النظام العام وفي العمران وفي بنى البلاد الأساسية طبعاً. ولكن أيضاً في فوائد تخصّ العائلة على نحو أشدّ قرباً. أي، مثلاً، في الصحة والتعليم والسكن وتيسير حصول الفقراء على ما لا يستغنى عنه… هذا، على وجه التحديد، ما أصبح في العقود الأخيرة عرضةً لأشرس الهجمات من جهاتٍ مختلفة لم يكن أصحاب الرساميل أشدّها بأساً في بعض المجتمعات. وإنما ضلع فيها بتكتم وحذق غالباً مراجع ومؤسسات دينية وسياسية معاً. وفيما كان الهزء ينال من “دولة الرعاية”، كانت هذه المراجع والمؤسسات تمدّ يدها إلى صندوق الدولة، فضلاً عن موارد أخرى، لتستحوذ على ما كانت هذه الأخيرة تنفقه على حضورها في المجتمع.
وقد دار بعد ذلك حوار بين المحاضر والحضور حول الآراء والمواقف التي طرحها..

السابق
قطع الطريق عند دوار الملولة
التالي
عاصفة قوية ستغرق لبنان الاسبوع المقبل