السفير: الجيش للمسلحين الأمر لي

كتبت “السفير ” تقول: أما وقد صدر قرار تسليم الجيش اللبناني الإمرة العسكرية في طرابلس، فانه لن يكون بمنأى عن الاستهداف السياسي ـ الأمني، بسبب وجود متضررين يسعون لحماية المكتسبات التي جنوها من التوترات الأمنية المتلاحقة في المدينة.
ولعل بوادر هذا الهجوم قد أطلت ليلا من خلال سلسلة من المواقف المحرضة على قرار تفويض الجيش وعلى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وعبر تسخين جبهات القتال.
والمفارقة اللافتة للانتباه أن كل القوى السياسية في طرابلس اتفقت على هذا القرار في الاجتماع الذي عقد في دارة ميقاتي في عاصمة الشمال، السبت الفائت، وشكل اجتماع بعبدا، أمس، برئاسة ميشال سليمان وحضور ميقاتي وقائد الجيش العماد جان قهوجي مناسبة لتظهيره إلى العلن بشكل رسمي فقط.
على أن اللغة السياسية المزدوجة التي يعتمدها البعض منذ سنوات، كان لها أثرها السلبي على القرار، فامتنع هؤلاء عن دعم الخطوة الجديدة لأسباب سياسية معروفة.
لا يختلف اثنان على أن دخان المعارك في طرابلس هو امتداد طبيعي للدخان الناتج من النيران السورية التي تهدد العاصمة الثانية على خلفية الدم و”أوليائه”، سواء في طرابلس أم في جبل محسن.
ولعل سقوط ظاهرة أحمد الأسير في صيدا، والإجراءات الأمنية الاستثنائية المتخذة في عرسال وبعض مناطق البقاع، قد جعلا من طرابلس الساحة الوحيدة لتنفيس كل الاحتقان الإقليمي، في انتظار أن يتمكن اللاعبون من العثور على ساحة أخرى لتبادل الرسائل النارية وتنفيس الاحتقانات عبرها.
هذا الواقع العبثي، لا يصب إلا في مصلحة المجموعات المسلحة في طرابلس التي وجدت في جولات العنف المتكررة، وفي ضعف القيادات السياسية، وفي تفجيرَي مسجدَي “السلام” و”التقوى” وما يحكى عن تورط أشخاص من جبل محسن فيهما، فرصة سانحة لمحاولة تحقيق سلسلة من الأهداف، أبرزها:
أولا: الانقضاض على “الحزب العربي الديموقراطي” وأنصاره تحت شعار: “أولياء الدم”.
ثانيا: استخدام بوابة المناطق التقليدية الساخنة في التبانة والقبة والبداوي للدخول الى كل أنحاء المدينة والتمدد فيها أفقيا، وهذا ما بدأ يظهر من خلال الإشكالات المسلحة غير المسبوقة في الأسواق الداخلية وفي مناطق أخرى تعتبر بعيدة عن المحاور.
ثالثا: الاستفادة من الشعار السوري في فرض سيطرة تلك المجموعات على طرابلس كقوى أمر واقع، وسحب البساط من تحت أقدام كل القيادات السياسية، وذلك على غرار ما حصل في مطلع الثمانينيات عندما سيطرت “حركة التوحيد الاسلامي” على المدينة.
رابعا: التمدد من طرابلس الى مناطق شمالية مختلفة، والتواصل مع مجموعات مماثلة في مناطق لبنانية أخرى تحت شعار: “توحيد البندقية السنية”، بدعم خليجي ولأهداف معظمها غير لبناني.
لذلك، فان غالبية تلك المجموعات تسعى اليوم لإطالة أمد جولة العنف الـ18، لاعتقادها انها قد تتمكن من تحقيق أهداف “الداعمين” من جهة، وتوسيع نفوذها و”فوائدها” من جهة ثانية، بعدما خرجت عن سيطرة كل القيادات السياسية، ونجحت في فرض نفسها على المدينة.
ولعل “الحزب العربي الديموقراطي” قد وجد في هذه الجولة فرصة سانحة له أيضا، تمكنه من فرض شروطه، فاخترع فكرة “أولياء الدم” للمعتدى عليهم بالرصاص في طرابلس، وسلمهم الامرة العسكرية، ليوجه من خلالهم سلسلة رسائل تنطوي على تأكيد ان ما كان يسري على “الجبل” من حصار واعتداءات قبل هذه الجولة، لا يمكن أن يستمر بعدها. وكذلك التأكيد أن جبل محسن ليس شارعا في باب التبانة، أو خزانا انتخابيا فقط، إنما هو امتداد للنظام في سوريا، وأن ما يتعرض له يستهدف طائفة بكاملها معترفا بها في الدستور اللبناني، ولها عمقها السياسي ـ الاستراتيجي في سوريا…
لذلك، فان قرار تسليم الجيش اللبناني الأُمرة على كل الأجهزة الأمنية العاملة في طرابلس، ومعالجة التدهور الأمني فيها، سيضعان المؤسسة العسكرية أمام سيناريوهات عدة:
الأول: استمرار الجيش في الرد على مصادر النيران واعتماد سياسة القضم باتجاه المحاور وتنفيذ المداهمات وتوقيف من يقع بيده من المسلحين، وهذا يتطلب وقتا طويلا جدا في مناطق متداخلة مثل التبانة والقبة والمنكوبين وجبل محسن، ومن شأنه أن يستنزف الجيش بزجه في معارك شوارع، ويجعله طرفا ثالثا فيها، وليس قوة ردع ضد المسلحين.
وبدا واضحا من خلال تعداد الجرحى أن عدد العسكريين المصابين لم يقل عن عدد الجرحى لكل من الطرفين المتنازعين، كما يستنزف في الوقت نفسه طرابلس التي تدفع الثمن الأكبر على الصعد الأمنية والاجتماعية والاقتصادية، علما ان حصيلة المواجهات في هذه الجولة حتى مساء امس بلغت 11 قتيلا ونحو 100 جريح.
الثاني: الحسم، من خلال إعلان محاور القتال منطقة عمليات عسكرية، وهذا معناه وضع طرابلس أمام مشهد مخيم نهر بارد جديد، أو عبرا ثانية. ومما لا شك فيه ان أمرا من هذا النوع يتطلب إجماعا وطنيا كاملا غير متوفر اليوم، لتغطية الجيش الذي من المفترض في معركة من هذا النوع أن يستخدم سياسة الأرض المحروقة، وما سينجم عن ذلك من خسائر بشرية ومادية ضخمة، فضلا عن اصطدامه بالتوازنات الاقليمية التي باتت تتحكم بتلك المحاور بشكل شبه كامل.
وتبعا لذلك، لا تخفي مصادر عسكرية أن التواجد الكثيف للجيش على كل المحاور يجعلها ساقطة عسكريا بيده، إلا أن أمر الحسم يحتاج الى قرار كبير جدا، لا يمكن أن يحصل في ظل التحريض المتمادي اليوم على المؤسسة العسكرية.
الثالث: الانسحاب من المنطقة، ما يعني حربا مفتوحة على جبل محسن تهدد بإسقاطه، وما سينجم عن ذلك من مجازر يمكن أن ترتكب بخلفيات مذهبية، وهو الأمر الذي قد يستقدم تدخلات خارجية وتحديدا سورية.
وقالت مصادر عسكرية بارزة لـ”السفير” إن خيار الانسحاب من مناطق الاشتباكات “غير وارد بتاتا، وهو أمر يتنافى مع عقيدة الجيش، وغير مقبول وطنيا، وان الجيش مستمر في القيام بواجباته في حماية كل لبنان، خصوصا طرابلس وأهلها وفق الاستراتيجية التي يراها مناسبة”.
واضافت ان القرار الذي اتخذ في اجتماع بعبدا امس، هو “تنفيذ لبند اساسي في الخطة الامنية لمدينة طرابلس، بما يضع كل القوى الامنية في المدينة بأمرة الجيش ولمدة ستة اشهر. ولا يعني ذلك تحويل طرابلس الى منطقة عسكرية، انما اناطة مسؤولية الحفاظ على امن المدينة وأهلها للجيش”.
وشدّدت على ان القرار محكوم بالتنفيذ العاجل والفوري، وستشهد الساعات الاربع والعشرين المقبلة إجراءات عسكرية وتدابير على الارض ونشر حواجز مكثفة للجيش في المدينة وتسيير دوريات وإزالة مظاهر التوتر ولو بالقوة.
واشارت المصادر الى ان القرار بمثابة “غطاء سياسي مطلق”. واوضحت ان الستة اشهر قد تكون كافية لإخراج المدينة من اسر المجموعات المسلحة سواء في التبانة ام في جبل محسن، “واذا لم نتمكن من ذلك، فإما يجري تمديدها لفترة اضافية، واما تعود الامور الى ما كانت عليه ونعود الى الدوران في الدوامة ذاتها”.

السابق
النهار: الجيش في طرابلس نصف حال طوارئ
التالي
الديار: اشتباكات عنيفة ليلاً وشهداء وجرحى للجيش