الثورة بالعسكر.. والديموقراطية تنتظر أحزابها المؤهلة للحكم

مباشرة بعد الهزيمة العربية في فلسطين، تقدمت الجيوش لتسقط الأنظمة السياسية القائمة بتهمة العجز عن مقاومة اجتياح «العصابات الصهيونية» للأرض المقدسة.
كانت البداية في سوريا، بعد شهور قليلة من القرار الدولي بوقف إطلاق النار، تمهيداً للهدنة التي ستمتد حتى الهزيمة الثانية في 5 حزيران 1967: أقدم الضابط في الجيش السوري حسني الزعيم على القيام بانقلاب عسكري مباغت في آذار 1949 اعتقل خلاله أركان الحكم من أهل السياسة ورؤساء الأحزاب الوطنية التقليدية فأودعهم السجون ورفع نفسه إلى رتبة «زعيم» ـ رئيس الدولة، وعين حكومة من الموالين والطامحين إلى السلطة.
سيمضي وقت طويل قبل أن يتبين أن الحركة الانقلابية التي قادها حسني الزعيم لم يكن لها أية علاقة بالهزيمة العربية في فلسطين، وإن كانت هي الذريعة، أما السبب المباشر فيتصل بمحاولة شركة التابلاين الأميركية مد خط أنابيب للنفط السعودي يعبر سوريا إلى الزهراني في جنوب لبنان… في حين كانت شركة النفط البريطانية «بريتش بتروليوم» قد سبقت إلى مد أنابيب تنقل النفط العراقي عبر سوريا إلى مصفاة البداوي القريبة من طرابلس في شمال لبنان.
لم يعمّر «حكم» حسني الزعيم إلا شهوراً قليلة، إذ خلعه انقلاب ثان، سيعقبه انقلاب ثالث فرابع، وتخللت الانقلابات عودة قصيرة إلى الحكم المدني والحياة الحزبية… وكان أن لجأت سوريا، بأحزابها وقواها السياسية وعسكرها إلى الرئيس جمال عبد الناصر في مصر ملحة في طلب الوحدة. وقبل عبد الناصر بغير حماسة في أوائل العام 1958، مفترضاً أن هذه الخطوة الاستثنائية قد تشكل إنقاذاً لسوريا التي كانت تتعرض لضغوط متعددة المصدر: من تركيا في الشمال، التي حشدت جيشها على الحدود، قبل ذلك بفترة وجيزة، ما اضطر مصر إلى إرسال نجدة عسكرية لتدرأ الخطر التركي، ولتواجه أيضاً تهديد الحكم الهاشمي الموالي لبريطانيا في العراق، فضلاً عن الخطر الإسرائيلي المفتوح.
÷ لا حاجة لاستعادة تاريخ ثورة مصر بقيادة «الضباط الأحرار» ( 23 يوليو 1952) والتي كانت الهزيمة في فلسطين بين محركاتها، ناهيك بفساد الحكم الملكي في مصر، وتهالك الأحزاب السياسية التي كان أبرزها «الوفد» الذي شققته الصراعات ثم قضى عليه خضوع قيادته للأمر البريطاني بفرض حكومة مصطفى النحاس على الملك، ما استفز الكرامة الوطنية المصرية، فأسقط حزب «الوفد» شعبياً قبل أن يقوم الجيش بحركته لإنهاء الحكم الملكي.
بعد سنتين من «ثورة يوليو» سيبدأ التحرش الإسرائيلي بمصر عبر تفجيرات في القاهرة تستهدف تهجير اليهود إلى الكيان الإسرائيلي المستولد.. وستغير قوات مسلحة إسرائيلية على مواقع مصرية في بعض أنحاء سيناء.. أما بعد أربع سنوات فلسوف تشترك بريطانيا وفرنسا مع إسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر، والذي سيكون صده انتصاراً عظيماً لمصر وثورتها.. ولسوف يستولد هذا النصر حالة ثورية في مختلف أنحاء الوطن العربي.
÷ بعد سنتين فحسب، سيثور اللبنانيون ضد رئيس الجمهورية الموالي للغرب كميل شمعون، الذي تخلف عن مناصرة مصر في مواجهة العدوان الثلاثي 1956، خارجاً على بديهيات التضامن العربي والإرادة الشعبية، ثم حاول قهر هذه الإرادة بتزوير الانتخابات ثم بالاقتراب من «حلف بغداد» الذي أنشئ لمواجهة الحالة الثورية العربية، وكان الحكم الهاشمي في العراق قد ارتبط بهذا الحلف إلى جانب إيران الشاه وباكستان، تحت الرعاية الأميركية. وقد انتهت الانتفاضة في لبنان بحمل قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب إلى رئاسة الجمهورية.
في 14 تموز 1958 أقدم الجيش العراقي بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم على خلع الحكم الملكي الهاشمي في بغداد، وكان شريكه العقيد عبد السلام عارف. وسرعان ما اختلف الشريكان العسكريان، وانحاز الشيوعيون في العراق إلى قاسم، وارتكبت مجازر بحق القوميين، بعثيين وناصريين.. وفرض على مصر عبد الناصر أن تواجه جبهة جديدة كانت تحتسبها الحليف، بل ربما افترض البعض أن العراق سيكون الثالث في دولة الوحدة.
وهكذا بات المشرق العربي من مصر (وسوريا) إلى العراق مروراً بلبنان في عهدة رؤساء من منابت عسكرية… وصار على الأحزاب السياسية، لا سيما في المشرق، أن تكتفي من الغنيمة بالمشاركة أو التأييد أو المساندة لحكم يقوده عسكريون.
.. وجاءت مفاجأة من أقصى المشرق: اليمن، حين قام الجيش اليمني، مباشرة بعد وفاة الإمام أحمد حميد الدين بانقلاب عسكري في 26 أيلول 1962، أنهى عصر الإمامة وأعلن الجمهورية، طالباً النصرة من مصر جمال عبد الناصر، الذي سارع إلى إرسال قوة عسكرية كان عليه أن يزيد عديدها وقدراتها على امتداد ثلاث سنوات أو أكثر لتحمي الحكم الجمهوري الذي ولد في قلب الصعوبة، وكلف مصر أعباءً ثقيلة لمواجهة الدعم السعودي للحكم الإمامي، منعاً لتمدد نفوذ قيادة عبد الناصر إلى الحدود التي كانت دائماً مصدر خطر على الأسرة السعودية.
وبرغم كل التطورات، فقد حكم العسكريون معظم عهد ما بعد الإمامة.. وهم ما زالوا الحكام حتى اليوم ولو بملابس مدنية.
في الشهر ذاته، أيلول 1962، كانت جزائر الثورة تستكمل أسباب قيام دولتها بعد تحريرها بالثورة من الاستعمار ـ الاستيطاني الفرنسي الذي امتد لحوالي مئة وخمسين سنة… وكان لمصر عبد الناصر دور مؤثر في مساندة هذه الثورة الشعبية المجيدة التي واجهت الاستعمار الفرنسي بعدما كبّد الجزائر حوالي المليون شهيد.
لكن هذه الجمهورية الوليدة سرعان ما شهدت انقلاباً عسكرياً قاده رئيس أركان جيش التحرير هواري بومدين، فخلع أول رئيس للجمهورية في الجزائر المحررة وأحد أبطال ثورتها، أحمد بن بله، بعد اقل من ثلاث سنوات على انتخابه ديموقراطياً، وأودعه السجن ليحكم بعده بالجيش حتى وفاته بعد حوالي خمسة عشر عاماً. وبعده تعاقب عسكريون بملابس مدنية على الحكم حتى اليوم.
وفي 13-17 تموز 1968 سيقوم ضباط من حزب البعث مع ضباط آخرين بانقلاب عسكري في العراق بقيادة اللواء احمد حسن البكر، يتولون فيه زمام السلطة مع ضباط آخرين ستتم تصفيتهم لينفرد الحزب بشخص صدام حسين بالحكم حتى نيسان من العام 2003 حين احتلت الجيوش الأميركية العراق. وكان صدام حسين قد أبقى في واجهة السلطة قريبه و«قائده» احمد حسن البكر، لفترة ثم أزاحه لينفرد بالسلطة جميعاً.. وكان قراره الأول أن شن حرباً ضد الثورة الإيرانية التي كانت قد خلعت الشاه في مطلع العام 1979.. وقد دامت ثماني سنوات طويلة ومدمرة. أما قراره الثاني فكان غزو الكويت في 2 آب 1990 «انتقاماً» من حكام النفط العربي الذين تخلوا عنه بعد وقف الحرب على الثورة الإيرانية…
ولقد تذرعت واشنطن بغزو الكويت لتنشئ حلفاً عسكرياً مع مجموعة من الدول العربية لإخراجه بالقوة من جارته الصغيرة الغنية، ملحقة بالعراق دماراً واسعاً، في مستهل العام 1991.
ولسوف تعود واشنطن وقد وسعت حلفها العربي إلى شن حرب مدمرة على العراق انتهت باحتلاله مطلع العام 2003 وإعدام صدام، وانفراد الحاكم العسكري الأميركي بإعادة بناء الدولة في ارض الرافدين، بما جعلها على شفا حرب أهلية مفتوحة تتوالى فصولها حتى اليوم.
÷ في أوائل أيار 1969، سيشهد السودان انقلاباً عسكرياً (بمساندة الحزب الشيوعي) يخلع الحكم المدني لينصب جعفر نميري رئيساً، منهياً الحكم المدني الذي كان قائماً في الخرطوم… وبديهي أن العسكر لم ينتظروا طويلاً قبل تصفية شريكهم المدني (الحزب الشيوعي السوداني ذي التاريخ النضالي المميز)، والانفراد بالحكم.
.. وفي «الفاتح من سبتمبر» 1969 قام العقيد معمر ألقذافي ومعه مجموعة من العسكريين الشبان بخلع الحكم الملكي (السنوسي) وتسلم زمام الأمور في هذه الدولة التي كانت هامشية، ثم جعلها العقيد «جماهيرية»، لا يعرف تماماً طبيعة نظام الحكم فيها الذي يتولاه منفرداً، مستولداً مجموعة من النظريات التي تتجاوز السلطة إلى المجتمع.
… وفي 19 تشرين الثاني1970 ، وبعد مضي ذكرى الأربعين على وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، سيقوم الفريق حافظ الأسد «بحركة تصحيحية» تحت شعارات حزب البعث العربي الاشتراكي. ولسوف ينفرد هذا الرئيس الداهية بحكم سوريا لمدة ثلاثين عاماً متصلة، فلما حضرته الوفاة في حزيران 2000 كان كل شيء معداً ليتولى نجله بشار الأسد السدة التي ما زال يحتلها حتى اليوم.
وكانت السلطة في مصر قد آلت إلى واحد ممن كانوا رفاقاً لجمال عبد الناصر، ونائبه عند الوفاة في 28 أيلول 1970 أنور السادات. وسيمتد حكمه حتى اغتياله في العام 1981، بعد سبع سنوات من حرب «العبور» ضد الاحتلال الإسرائيلي لسيناء الذي أعقبته زيارة تل أبيب ثم معاهدة الصلح مع العدو الإسرائيلي.
وبعد اغتيال السادات تولى الحكم نائبه الفريق حسني مبارك الذي استمر يمدد لرئاسته لمدة ثلاثين سنة حتى وقعت انتفاضة 25 يناير- كانون الثاني 2011 التي أجبرته على تقديم استقالته على التلفزيون. وما جرى بعدها معروف.
أما في تونس فقد أقدم العقيد زين العابدين على خلع الرئيس الحبيب بورقيبة في 7 تشرين الثاني 1987، وظل يحكم خليفة للمجاهد الأكبر، حتى انفجار انتفاضة البوعزيزي الشعبية في 17/12/2010 فهرب في 10/1/2011 إلى السعودية، لتتولى الحكم «جبهة» تضم «الإخوان المسلمين» مع بعض الأحزاب ذات التاريخ في تونس.
لكن حكم الجبهة لا يبدو نهاية التحولات.

لماذا هذا العرض التفصيلي وبهذا التوقيت؟
لأن الانتفاضات التي توالت في العديد من الأقطار العربية، ومصر أخطرها وأعظمها، لا تجد لها قيادات مدنية مؤهلة وذات رصيد شعبي يكفل لها الوصول إلى سدة الحكم على قاعدة برنامج نضالي واضح.
وفي حالة مصر، على وجه التحديد، يجد الجيش نفسه في موقع القيادة، ولو بالاضطرار، ويتطلع الجمهور بأكثريته الواضحة إلى الفريق أول عبد الفتاح السيسي كمنقذ، في حين تتردد القيادات السياسية التي كان لها رصيدها الشعبي قبل الانتفاضة، ثم تعزز خلالها، لأنها تجد ذاتها اضعف من أن تستطيع مواجهة المرحلة الجديدة بأعبائها الثقيلة.
هل أقفلت الدائرة: من الجيش إلى الجيش، نتيجة ضعف الحركة السياسية في الشارع، بأحزابها وتنظيماتها التاريخية التي لا يكفي رصيدها لتوليتها قيادة البلاد؟
أم أن علبة السحر الديموقراطي، الانتخابات، مؤهلة لأن تقدم المدخل إلى الحكم المدني القادر على القيام بأعباء التغيير الذي استولدته الانتفاضة الجماهيرية العظيمة التي كانت تنقصها القيادة القادرة والمعززة ببرنامج واضح ومحدد للحكم في زمن التحولات الدولية الكبرى، والاحتياج الملح إلى من يحقق طموح الشعب؟

السابق
الأسد بعد اتفاق إيران
التالي
شمخاني لبرّي: كان علينا أن نختار بين السيف والحوار