قاعدة الأسير وبطل كافكا

ما قيل بعد التفجيرين الانتحاريين الإجراميين، قد قيل سابقاً. السياق السياسي للأحداث كان معبرا بوضوح: «الصراع في سوريا هو نقطة البدء، ومن بعدها الطوفان». تعطل لبنان، المعطوب عضويا وبنيويا في أساس وجوده ونظامه وجماعاته، بعيد اندلاع الحرب في سوريا. الاصطفافات الإقليمية كانت معروفة. انخرط ممثلوها أكثر. بلغوا مرتبة الاشتراك بالقتال أو السلاح والمال، بعدما فشلوا في لجم الاندفاعة إلى الحسم، ولهذه الاصطفافات عسكر يقاتل ويقتل، إما باسم النظام، وإما باسم الديموقراطية، المقرونة بأسماء المذاهب الحسنى.

قيل، إن للصراع في سوريا، وجوها كثيرة. ليس بينها وجه جميل. ليس بينها وجه لم يتشح بالجريمة. سقطت في سوريا كل الأحداث الجميلة: الحرية، الديموقراطية، العدالة، الممانعة، المقاومة. كلها سقطت. ومن يدعي عكس ذلك يكابر.

لقد أخذ الصراع في سوريا أشكالاً مختلفة، وتداخلت فيه عوامل متعددة، وتورطت فيه دول عظمى وصغرى، دولية وإقليمية، من مذاهب شتى، وأخذت وجهةُ الصراع مناحيَ عديدةً. ما كان في البداية انتهى. لا علاقة بنهايات ما آلت إليه الأمور في سوريا ببدايات الأزمة. غير أن بؤرة وحيدة، ظلت ثابتة ومتأججة، هي بؤرة الصراع المذهبي، الممتد من إيران إلى العراق إلى سوريا فلبنان، أو المنطلق من السعودية إلى قطر إلى تركيا. والمذاهب قابلة للاشتعال كالهشيم.

لبنان في هذه الخريطة، ينتسب إلى معسكرين: معسكر السنة ومعسكر الشيعة. وما بينهما، ينعكس في السياسة و… الأمن المعتقل.

ما قيل بعد الجريمة، كان قد سبق وقيل. الصراع الإيراني السعودي أحد وجوهه. الحامل والمحمول من مذهبين، وعلى قيادة تيارين يتنافسان في السياسة والمرامي والقضايا. وكان معروفاً، منذ البداية، أن لبنان، لن يرمى له طوق النجاة، بل ستتدحرج إليه كتلة اللهيب، وسيكتوي بنيرانها. وهذا ما حصل بالتقسيط، على مدى عامين ونيف.

سيل التحليلات أعاد إنتاج ما قيل. الجديد، ان لبنان، صار بعضه قاعدة لـ «القاعدة». الانتحاريان ليسا «أجنبيين». لم يتسلَّلا إلى لبنان من الشيشان أو القوقاز أو السعودية أو الدول المصدرة للإرهاب. هذه «القاعدة الأسيرية» على ما ظهر حتى الآن، صنعت في لبنان. هذه بضاعتنا. حواضننا المذهبية متخصصة منذ أعوام، في إقامة الحدود المذهبية والدينية بين المؤمنين والكافرين. حواضننا تبشر بالجنة جائزة. والفريقان متأكدان من أن ملذات الجنة من حصتها. حواضننا تخرِّج شباباً مزوَّدين بتعصب يستسهل الارتكاب. وهي حواضن محتَضَنَة كذلك من معتدلين وحداثيين، يجدون لها التبريرات والأسباب التخفيفية. حواضن تحظى بتغطيات سياسية ودينية وإعلامية. حالة الأسير نموذج، وحالات أخرى فاقعة في أكثر من مدينة وبلدة.

إذاً، فليستعد اللبناني لملاقاة آلامه وعذاباته وجراحه. ليس لديه وسيلة لدرء «القاعدة» عن لبنان. اللبناني ليس مؤهلاً لإصلاح كهرباء أو تعيين موظف، أو إجراء انتخابات، أو تأليف حكومة أو «انتخاب» رئيس جمهورية. هو فاقد الأهلية السياسية، ومخاطر هذا الفقدان، أقل بكثير من فقدانه الأهلية الأمنية. فالبلد يعيش على توقع الأسوأ، على سيارة تنفجر، على خطف يحصل، على جولة تنتعش، على… كل ما يؤدي إلى الدم.

كل ما سيقع غداً… متوقع، واللبناني يستعد لاستقبال الكارثة بالاستسلام. لا يعوِّل على قياداته السياسية. لا ثقة لديه بحظوظ النجاة. لا يطمئن إلى الاجراءات الأمنية الصارمة، فثقوبها كثيرة، لأسباب مذهبية نخرت أجهزة الدولة وأخضعتها لهوياتها وانتماءاتها. الأمن، في ذروة سهره واستنفاره، غير قادر على مكافحة إرهاب استوطن أرضاً، وجد فيها حواضن لكتمان بنيته التحتية… ولا يعوِّل اللبناني على مؤسسات الدولة. إنه يعوِّل على الصدفة والحظ فقط.

جدير باللبناني ان يحتفظ بجهوزية نفسية لاحتمال الآلام ومشاهد التفجير والجثث المقطعة والمحترقة، ولوعة الأهل، وخطاب الابتذال التبريري ونبرة الثأر المستترة… جدير باللبناني أن يتزوّد بمهدئات تسكت هواجسه وتساعده على احباط يسير. جدير به أن يستنفر أحاسيسه ومشاعره كي لا يتبلَّد ويعتاد على معاقرة الكارثة و«مزمزة» المرارات. جدير به أن يبقى «إنساناً بيقظة استثنائية»، كي لا يشعر أنه كنعجة تساق إلى الذبح. جدير به أن يتمرد ويتمسك بالحياة ويملأها ضجيجا وصخبا. جدير به ان يطرد أهل السياسة والطوائف والمذاهب والمذابح من لغته. جدير به ان يتحصّن بإنسانيته وقيمه، وان لا ينحاز إلى ضحايا دون آخرين، وأن لا يلتذ بالشماتة.

إن الاستسلام لهذه «النهايات» البائسة عار إنساني. على الأقل، بإمكانه أن يرفع لاءاته ولو بخفر، أن لا يساق إلى اللامبالاة، ومنطق النجاة الفردي.

ان الارهاب الذي كان على الأبواب، صار في عقر الدار، وإسقاطه يتطلب جدارة الانتماء إلى وطن، لا إلى مذهب. فلبنان لم يكن وطنا لذلك تحوّل إلى مسلخ.

إنها أيام سود. الأيام القادمة كالحة، وليس باستطاعة أحد أن يبشر اللبنانيين بسلم أهلي ولو بعد انتهاء الحرب في سوريا.

لقد فرغ لبنان من أحلامه وخرافاته القديمة و«يا شعب لبنان العظيم». صار مساحات وعشوائيات وقنوات، وتحوّل بسبب إهماله لبنيته الوطنية، إلى ركام فوق ركام.

تنذرنا الحالة الراهنة بأننا سنصبح شعباً مخطوفاً، ولا فدية تنقذه. فما أسوأ أن يصير الوطن مصيدة، وأن يتحوّل الناس إلى فئران، أو، إلى «بطل» كافكاوي، كما وصفه في كتابه «La Métamorphoce».

يا للهول!

السابق
اطلاق نار على شاحنات سورية فجرا
التالي
النووي والدور والقاموس