اللعب على جريمة السفارة

جريمة تفجير السفارة الإيرانية حملت العجائب، بعد الموت والخراب. المعنيان الإثنان بها، صاحبا الإرتباط العضوي، وجّها إتهاماتهما صوب جهتين مختلفتين، كأن التنسيق بينهما غاب لبرهة: السفارة الإيرانية، ومعها قيادتها في طهران، انصبّت على “الكيان الصهيوني”، فكان الإصرار على إتهامه بالجريمة. فيما “حزب الله” حمّل مسؤوليتها لـ”تكفيريين”، والتحقيقات لم تتباطأ في تأكيد هذا الإتهام، بعد بيان “كتائب عبدالله عزام”، والكشف عن هوية الإنتحاريين.

هذا التناقض البائن، بين الطرف القائد وصنيعته “حزب الله”، لم يتأخر في تبديده أحد الكتّاب في نص يستحق أن يكون درس علوم سياسية في طريقة تعامل إيران مع الجرائم السياسية، بإسم “مصالحها العليا”. يقول كاتبنا، “نقلاً عن مصدر مطلع”، أنه، حتى لو كانت “القاعدة” حقاً هي التي إقترفت هذه الجريمة، فإن الإيرانيين سيظلون على إتهامهم لإسرائيل، لأن إيران، في رأيه، تريد التعاون مع السعودية لمعالجة أزمات المنطقة، والبحث عن حلول لأزماتها، ولأن الإيرانيين لا يريدون أن ينساقوا إلى صراع صريح مع السعودية، يُنفى عنه طابعه “الوجودي”، ليؤكَّد طابعه السياسي.. فليس مهماً، عنده، من خطط للجريمة ونفّذها، إنما المهم من يخدم…
وفي حين أن الإمتناع عن توجيه التهمة الى السعودية و”القاعدة”، هو تمرير لرسالة بارعة في المراوغة، وقوامها إن السعودية هي التي تقف خلف “القاعدة”، فيجب عدم البوح بهذا السرّ، إلا لكتّاب الممانعة، شرط أن يذيعوه…

ليس هناك أوضح من ذلك: أن تصارع إيران إسرائيل على المسرح اللبناني، فهذا من بديهيات “حزب الله”. كل وقائعه وإيماءاته وخطبه و”انتصاراته…”، كلها مسجلة في دفتر هذه البديهيات. ومن المنطقي بعد ذلك، ألا تعير إيران أي أهمية لكون الأرض اللبنانية هي أرض مواجهتها لإسرائيل، طالما أن الدم ليس دمها، إلا قليلاً، وطالما أن هناك متبرعون متحمسون، مستعدون لأن “يموتوا من أجل إيران” (هكذا قالوا على شاشاتهم).

لكن الأهم، هو التغاضي الإيراني العلني عن المجرمين الحقيقيين، أي “القاعدة”، وتسمية غيرهم، ومن أجل أهداف سياسية أكثر من معلنة. وهذا جرم في ذاته، تعاقب عليه القوانين الجزائية، لو كانت موجودة. جرم إنكار معرفة من أجل غرض سياسي، مهما كان نبيلاً، هو تشجيع على المزيد من الجرائم، وليس “وأداً للفتنة”، كما تدعي “مصادر” كاتبنا.

أما أن تذهب المخيلة الى تصور كيفية قيام إسرائيل بهذه الجريمة، كيفية ترتيبها، وتدريب منفذيها، وإقناعهم بالموت بهذه الطريقة، وكتابة بيان بلغة الجهاديين ومطالبهم… الى ما هنالك من أوجه الإعداد لهذين التفجيرين، فهذا من باب تعلم فنون السياسة الإيرانية: “ذكية” عند البعض، “خبيثة” عن البعض الآخر. أسلوب الرجل التقي الورع، الذي في وسعه أن يحوّل عصيان أمر الله، أو تحريماته، إلى أوامر، أو حلال. والمؤسف إن ثمة من ينقلها إلينا، تلك التعبيرات الفجّة عن هذه الفنون، من دون الانتباه الى خللها الأخلاقي قبل كل شيء، قبل خللها المنطقي، القانوني، والإنساني. كأن الغفلة عنده مقصودة.

لكن يبقى السؤال: لماذا الإصرار على إتهام إسرائيل، لا السعودية؟ لأن إيران الآن، بتقاربها مع الغرب، لا تقيس نفسها بالسعودية، إنما بإسرائيل. بمفاوضاتها مع هذا الغرب، تحمل ورقة تعتقد بأنها رابحة، هي ورقة أنصارها الممانعين، من دول وتنظيمات. تسيطر على مصير بلدانهم في مقابل تنازلها عن شيء من نوويها. ذاك هو سوق البازار الذي تحسب إيران نفسها مسيطرة عليه. وفي مغامرتها هذه، تقف في وجهها الدولة النووية الوحيدة القادرة على تحييد تقاربها مع “الإستكبار الأميركي”. أما السعودية الآن، فبالكاد تصحو من غفوتها النووية، وخطرها لا يتجاوز تلك التفجيرات… وعلى أرض لبنانية سائبة. لذلك كان من المستحسن، وبفضل هذا الفن الفذّ العريق، أن تتهم إسرائيل بالجريمة، لا السعودية.

عن “المدن” الالكترونية

السابق
أكثر من 300 قتيل للمسلحين في معارك الغوطة الشرقية في سوريا
التالي
تخوف من عمليات قد تستهدف سجن رومية