جزين: بؤس التعايش من ماضي الاصطياف إلى حاضر القلق الطائفيّ والإقليميّ (1)

قضاء جزين

ذات يوم، قبل 1948، كان المصيفان الوحيدان في لبنان عاليه وجزّين. أمّا البلدات الأخرى، كبحمدون وصوفر، فكانت تهمّ أن تصير كذلك. ولأنّ جزّين غير بعيدة من فلسطين المتّصلة بمصر، غدت مصيف الباشوات المصريّين وسواهم من المتّجهين شرقاً وشمالاً. هكذا، نشأت مبكراً فنادق تحمل أسماء «الأهرام» و «فلسطين»، فيما عرفت المنطقة انتعاشاً لم يتكرّر إلّا في الستينات والسبعينات، قبل أن يذوي مع حرب السنتين في 1975.
وكانت قد جُدّدت البنية التحتيّة للبلدة، فجُرّت المياه في 1927، واعتُمد الصرف الصحّيّ في 1940. وأهمّ من ذلك كانت البنية النفسيّة للجزينيّين: ذاك أنّ صفات مرنة وقليلة العصبيّة وسمت شخصيّتهم، مثلهم في ذلك مثل جوارهم المسيحيّ في شرق صيدا. فلئن طغى على شمال متصرّفيّة جبل لبنان المارونيّ، في زغرتا وبشرّي، افتخار ابن العشيرة الغاضب، طغى على جنوب المتصرّفيّة المارونيّ، في جزّين، اعتدال ابن العائلة – النواة الذي يهيّئ نفسه للعصر الحديث. وإذا درج الأوّل على إطلاق العنان للسانه تعبيراً منه عن شعور حادّ ألمّ به، لم تفارق الثاني عفّة اللسان واقتصاد سلوكيّ تشارك فيهما مع جاره الدرزيّ في الشمال.
وهذا ما كان منّة الطبيعة التي غدت، في وقت لاحق، لعنتها. فالمحيط المسيحيّ هناك إنّما ولد أصلاً بصفته منطقة عازلة بين الشوفيّين الدروز والجنوبيّين والبقاعيّين الشيعة الذين أقام أسلافهم في جزّين. وعن موقع كهذا، منوط به امتصاص التوتّر، ينشأ التوسّط بالمقدار الذي ينشأ فيه التكيّف.
والحال أنّ معظم أسماء الجزينيّين الذين برزوا في الشأن العامّ يصحّ فيهم النعت هذا. فزعماء جزّين، من جان عزيز إلى سمير عازار، يوصفون بـ «الاعتدال»، أمّا أحدهم، إدمون رزق، فلم تحلْ كتائبيّته التي استمرت عقوداً، دون كونه خطيب المناسبات العاشورائيّة. ولئن عُرف الشاعر الكلاسيكيّ بولس سلامة بالملاحم في عليّ بن أبي طالب ومواقعه، فإنّ البطريرك المارونيّ بولس المعوشي اشتُهر بمعارضته عهد كميل شمعون الذي أخذ عليه تطرّفاً في المارونيّة.
وعلى امتداد سنوات الحرب حافظ سياسيّو جزّين، موحّدين أو متفرّقين، على نهج يصون العلاقة مع الجوار، لا الشيعيّ أو الدرزيّ فحسب، بل السنّيّ في صيدا كذلك. وهي مهمّة كانت بالغة الصعوبة في ظلّ احتدام الأوضاع وتشابك ما لا حصر له من عوامل تستحيل السيطرة عليها. إذ، كما قال لنا جزينيّ مُلمّ بأحوال الدنيا: «كيف لنا أن نتحكّم بما يقرّره الإسرائيليّون والفلسطينيّون والسوريّون والإيرانيّون؟».

الجهد أوّلاً
بيد أنّ سبباً آخر جعل تلك الشخصيّة تكتسب ما اكتسبته من مواصفات. فالجزينيّون لم يكونوا من المحاربين والعصاة أو الكفّار، بل نشأوا نشأة فلّاحين. والقضاء كلّه، وهو الحدود الجنوبيّة للمتصرّفيّة، كان ملكاً لآل جنبلاط الذين ورثوا بيت القاضي. ويروي الأستاذ الجامعيّ الياس قطّار أنّ السكّان الذين انتقلوا إلى جزّين وجوارها إنّما فعلوا بصفتهم شركاء لكبار الملّاكين، فأحرزوا ما أحرزوه بالعمل والجهد واستصلاح الأراضي. وهذا ما جنّبهم المبالغة والإطناب وعلّمهم درس التوافق مع الآخر، منطقةً كان الآخر أو طائفةً أو طبقة اجتماعيّة، بحيث باتوا يؤثرون حلّ المشاكل بالّتي هي أحسن. «فنحن»، كما يقول أنطوان رزق، رئيس لجنة التجّار في جزّين، «نملك من تركيبنا ومن وضعنا الجغرافيّ ما لا يسمح لنا بأن نختلف مع أحد».
والجزينيّون لا يكتمون ارتياحهم لما هو سلميّ وحديث في حياتهم. فمنطقتهم، وهي قضاء جنوبيّ، تنتمي سياسيّاً واجتماعيّاً إلى جبل لبنان، كأنّها بذلك تستأنف سيرتها في عهد المتصرفيّة. هكذا، كانت تيّاراتها السياسيّة امتداداً لما هو سائد في الجبل، بحيث عُرف إدمون رزق طويلاً بكتائبيّته، واشتُهر كلود عازروي بكتلويّته، وانتسب نديم سالم إلى «حزب الوطنيّين الأحرار» قبل أن ينضوي في «حركة التجدّد الديموقراطيّ». وهي اليوم حيث يعمل المخفر والمحاكم والبلديّات، وحيث تنعدم الجريمة أو تكاد. ذاك أنّ عائلاتها، التي فرّعها انتشار التعليم، كفّت عن التلاحم الانتخابيّ وراء مرشّح بعينه والتعصّب له ضدّاً على عائلة أخرى. وبتواضع يحتفي أهل جزّين بتاريخهم الحديث، ما يعكسه تمثال صغير ووديع في ساحة البلدة لسليمان كنعان «بك»، عضو مجلس إدارة جبل لبنان وأوّل زعمائهم.
والحقّ أنّ التمثيل السياسيّ للقضاء نمّ عن الكثير من تلك المواصفات. فلعشرات السنين تعاقب أصحاب المهن الحديثة، لا سيّما منهم المحامين، على مقاعدها البرلمانيّة. وإذا صحّ أنّ القضاء لم يحصل على ما يستحقّه من تصدّر سياسيّ، صحّ أيضاً أنّ المركزيّة الجزينيّة أرحب من مركزيّة بلدات لبنانيّة أخرى. ذاك أنّه، في أواخر الخمسينات، حلّ في البرلمان نائب من قرية البابا الصغيرة هو نقيب المحامين فريد قوزما الذي شغل الوزارة ثلاث مرّات في العهد الشمعونيّ، كما اتّسعت السياسة المحلّيّة لبروز كلود عازوري من قرية عازور، الصغيرة هي الأخرى.

الوجهة المعاكسة
ليس من المبالغة إذاً أن يقال إنّ جزّين مصغّر لبنان في الهشاشة حيال خارج مضطرب. «فنحن»، وفق أنطوان رزق، «جعلَنا الموقع الجغرافيّ والاعتماد على السياحة، لا نحتمل اهتزاز الأمن في أيّ مكان: فإذا انهار في طرابلس فكّرنا بما قد يحصل في صيدا، وإذا تردّى في بعلبك أو سواها خفنا من إغلاق المطار». ويضيف جزينيّ سألناه عمّا قد يحدث لبلدته فيما لو اصطدم الشيعة في الجنوب والشرق بالسنّة في الغرب أو بالدروز في الشمال: «يجتاحوننا في طريقهم».
وهذا ما يرفع التعايش، والطلب على الأمن تالياً، إلى سويّة الشرط الشارط لأهل جزّين. غير أنّ الخارج بدأ يضطرب مبكراً. ووفق الوزير السابق إدمون رزق شرع التدهور يذرّ قرنه مع الانقطاع عن الدولة أواخر الستينات، حين قامت «فتح لاند» وأُسقطت اتّفاقيّة الهدنة، ثمّ ظهر، في 1976، «جيش لبنان العربيّ» الذي أسقط ثكنات الجيش في الجنوب. وردّاً على المناشدات بالانضمام إلى تلك الثكنات، طالب رزق قائد الجيش حنّا سعيد بإنشاء تجمّع للجيش اللبنانيّ في الجنوب يضمّ أبناء المنطقة بسائر طوائفهم. وفعلاً نشأ التجمّع الذي انضوى فيه 870 عسكريّاً ساعدوا جزّين على الصمود. لكنّ أواخر العام ذاته، 1976، شهدت مذبحة العيشيّة، على حدود القضاء مع النبطيّة، فقضى على أيدي القوّات الفلسطينيّة واللبنانيّة المتحالفة أكثر من 70 قتيلاً.
حينذاك تداعى سياسيّو جزّين وقادتها إلى إنشاء لقاء عهدوا برئاسته إلى «أكبرنا» جان عزيز، فيما تولّى إدمون رزق النطق بلسانه. وفضلاً عنهما ضمّ اللقاء النائبين فريد سرحال ونديم سالم والمطران ابراهيم الحلو. أمّا الهدف من اللقاء هذا فكان تشجيع السكّان على البقاء في البلدة وتأسيس هيئة أهليّة تطوّق الحوادث وتفضّ النزاعات.
لكنّ الأحداث ما لبثت أن فاضت بما يغمر القدرات المتاحة. ففي 1978 كان الاجتياح الإسرائيليّ الأوّل حيث نشأ الشريط الحدوديّ و «جيش لبنان الحرّ» الذي صار لاحقاً «جيش لبنان الجنوبيّ». وبعد أربعة أعوام كان الاجتياح الأكبر وما تلاه من محنة تهجير الجبل في 1983 – 1984، حيث هُدّدت جزّين نفسها. وفي 1985 كان الانسحاب الإسرائيليّ من الأوّليّ وقد تبعه الفلتان والفوضى وتهجير ما سمّي ساحل منطقة جزّين وشرق صيدا.
وحيال عجز الدولة أمام تلك الأحداث الجسام وتمنّعها عن إدخال جيشها، وفّر «جيش لبنان الجنوبيّ» الأداة الوحيدة للدفاع عن جزّين المسكونة بمذبحة العيشيّة وبأعمال التهجير في الجوار. لكنّه وفّر أيضاً الذريعة لإبقائها في مرمى نيران الجماعات التي تقاتل إسرائيل.
فجزّين بدت عالقة في الفراغ، لا هي مضمومة إلى الشريط الحدوديّ ولا هي في عهدة الدولة التي لا تجرؤ على ضمّها إليها. هكذا، بدا طبيعيّاً الإقبال على «لبنان الجنوبيّ»، أو «جيش أنطوان لحد»، دفاعاً عن النفس.
لكنّ تلك الأسباب لا تختصر علاقة الجزّينيّين بالجيش اللحديّ. ذاك أنّ تهجيري الجبل وشرق صيدا قذفا بالآلاف من أبناء المنطقتين المذكورتين إلى جزّين. وهم نزحوا غاضبين ويائسين، ولكنْ أيضاً مُفقرين تركوا وراءهم أملاكهم وأشغالهم وما ادّخروه، ليقيموا في بيوت جزّين المهجورة ومبانيها العامّة. والحال أنّ أبناء المهجّرين هؤلاء كانوا، وفق الياس قطّار، أكثر من انضووا، مدفوعين بالحاجة، في قوّات لحد، فيما أبقى بعض الجزّينيّين أبناءهم خارج بلدتهم كي يجنّبوهم التجنيد في تلك القوّات. وبينما كانت الليرة اللبنانيّة تنهار أمام الدولار، وبانهيارها تتقلّص القدرة الشرائيّة للأجور، تقاضى المجنّد في «لبنان الجنوبيّ» 400 دولار شهريّاً، ما حرّك الاقتصاد المحلّيّ نسبيّاً، خصوصاً أنّ متقاضي تلك الأجور لا يستطيعون إنفاق نقودهم خارج جزّين.
ذاك أنّ الأخيرة التي أتاح لها موقعها، في أزمنة السلم، كثير المعابر والممرّات إلى بيروت، أضحت رهينة معبر واحد، يُغلق في الخامسة مساءً، هو قرية باتر الشوفيّة. فمن خلاله وحده استمرّ التواصل المخنوق مع العاصمة بين 1985 و1999، مثلما استمرّ تواصل الدروز الشوفيّين مع دروز حاصبيّا.
بطبيعة الحال لم يكن الجزينيّون مسرورين بحصارهم وما آلت إليه أمورهم. هكذا، يروي القائمقام السابق توني عازار قصصاً لا تنقطع عن بؤس الحياة في تلك السنوات المُرّة. ففي الخامسة مساء كانوا يلوذون ببيوتهم، يزيد من شعورهم بالاكتهال ذاك التجنيد الإجباريّ الذي يفرّ منه الشبّان ولا يعودون بعد ذاك. وإذ حاصرهم الاختناق، تأدّى عن إعاقات المعابر تردّي الوضع الصحّيّ تبعاً لصعوبات الانتقال إلى المستشفيات. وهذا، كما يضيف عازار، «ما لا تعوّضه بتاتاً المعاشات التي تُدفع للجنود والتنفيعات التي يحظى بها المتعاونون».
لقد خسر قضاء جزّين 400 شابّ قُتلوا إبّان الاحتلال الإسرائيليّ، وكانت تمرّ أيّام يدفن الجزينيّون في واحدها ما بين 10 و15 قتيلاً.

مشيئة «سوريّة الأسد»
لكنّ تلك المحنة المتمادية لم تكن بعيدة عن تصوّر «سوريّة الأسد» لصراعها مع إسرائيل ونظريّتيها الوظيفيّتين عن «الساحة اللبنانيّة» و «تلازم المسارين». فبغضبٍ يعلن إدمون رزق، معلّقاً على تلك الأطوار الدموية، أنّ «الجريمة الأكبر في تاريخ لبنان كانت عدم إبرام اتّفاق 17 أيّار، بسبب صفقةٍ مع السوريّين قضت بإسقاطه، فاتحةً الباب للفوضى التي مثّلها الانسحاب الإسرائيليّ الأحاديّ». أمّا سيمون كرم، السفير اللبنانيّ السابق في الولايات المتّحدة، فيلاحظ أنّ «سوريّة، منذ المسار الذي ابتدأ بمؤتمر مدريد في 1991 وتُوّج بمعاهدة أوسلو في 1993، تشدّدت في لبنان عبر تنشيطها العمليّات العسكريّة. لقد عطّلت عرضاً أميركيّاً – إسرائيليّاً للانسحاب من جزّين بموجب معادلة «جزّين أوّلاً». وفي ظلّ التحكّم السوريّ بلبنان خُوّن أهل جزّين عن بكرة أبيهم، وهُدّدوا بالعمليّات التي راحت تتعدّى جيش لحد إلى السكّان المدنيّين، كما كانت تشنّها، فضلاً عن «حزب الله»، الأحزاب والقوى الأخرى التابعة لدمشق. وبالفعل، صارت جزّين الخاصرة الرخوة عند كلّ تعادل ميدانيّ يطرأ بين إسرائيل وحزب الله».
وفي هذه الغضون، وفي 1997 تحديداً، أنشئ «لقاء مار روكز» المدعوم من البطريرك نصرالله صفير، والذي ضمّ إدمون رزق ونديم سالم وسيمون كرم وكلود عازوري وشخصيّات، سياسيّة ودينيّة، أخرى. فهؤلاء كانوا، ضدّاً على الرغبة السوريّة، يسعون إلى حلّ لبلدتهم وقضائهم يقوم على انسحاب لحد ودخول الدولة. لكنّ ما لم يحصل في أواسط الثمانينات لم يحصل في أواخر التسعينات. فقد وافق لحد وامتعضت دمشق، صاحبة «تلازم المسارين»، فجبنت بيروت المحكومة من دمشق.
وبالفعل انسحب لحد وقوّاته المثخنة بالجراح صبيحة 1/6/1999، فعوقبت جزّين على انسحابه منها بعدما عوقبت على بقائه فيها. أمّا شكل العقاب فكان، هذه المرّة، الانتقام.
فقد حوكم حوالى 300 شابّ ممّن لم يُعامَلوا معاملة سائر الميليشيات بعد اتّفاق الطائف. وهم لئن طاولتهم أحكام معتدلة تراوحت بين السنة والسنوات الثلاث، فإنّ سجلّاتهم وسجلّات أهلهم بقيت مفتوحة، كما بقي التسلّط عليهم سهلاً، استدعاءً إلى مراكز المخابرات، وتضييقاً في فرص التوظيف، وتحكّماً بمخاتيرهم ورؤساء بلديّاتهم، ومساءلةً عند السفر أو عند العودة.
وإذ رأى سيمون كرم أنّ «هذا السلوك إنّما تمأسس»، ذكّرنا إدمون رزق بقوله أمام المحكمة، فيما هو يدافع عنهم، إنّ «الذين هربوا وفرّوا يتّهمون اليوم الذين صمدوا».
هكذا، أقامت الحرب الأهليّة الضامرة، حصاراً ثمّ عقاباً، وراء الصراع المعلن مع إسرائيل. وكان ما ضاعف المرارة أنّ أكثريّة المجنّدين في جيش لحد لم يكونوا جزينيّين أو مسيحيّين، بل كانوا من الشيعة الجنوبيّين. بيد أنّ ارتباط المقاومة بـ «حزب الله» الشيعيّ وفّر لهم عفواً عمّا مضى، في الواقع كما في الرواية. هكذا، ارتسمت صورةٌ لمقاوم كامل في مقابل متعاون كامل، فيما كانت سنوات الوصاية السوريّة، وابتزازها المسيحيّين بالتعاون مع إسرائيل، تُحبط تطويرَ أيّة رواية جزينيّة للأحداث يدافع فيها أصحابها عن أنفسهم ويشرحون ظروفهم إبّان الاحتلال. لقد ساد التعثّر والتأتأة في مواجهة الفصاحة الظافرة.

السابق
حزب الله… بعد مرحلة إيران المشاغبة وسورية الممانعة!
التالي
النفط أكبر ضحايا اتفاق ايران والغرب