لبنان انتهى فلنجترح غيره

في يوم الاحتفال البائس والمتفجع بعيد الاستقلال السبعين، هذا، لا أجد أمامي سوى هذا السؤال: هل انتهى لبنان؟ مقروناً بهذا الجواب الفجّ،
وربما “الوقح”: أعتقد أنْ نعم.

لقد انتهى لبنان عند أهل الحراب التاريخي القاتل. جرّبه الموارنة والدروز طويلاً وكثيراً، بالعثمانيين وبالدول الكبرى أولاً، ثمّ جرّبه الموارنة بالفرنسيين، ومن دونهم. وأمعنوا. وبعضهم جرّبه بالإسرائيليين. ثمّ استعان عليه السنّةُ بالفلسطينيين، وها هم الشيعة يستعينون عليه بالإيرانيين والسوريين، لاستكمال فعل القتل المثلّث. وهم ينجحون في صدمه بالجدار المسدود. فلا منفذ. ولا ضوء. ولا أيضاً قيامة.
لقد انتهى هذا اللبنان حقاً، عند أهل العقل الكياني. فمن طبع هؤلاء الأهل، أن يحدسوا الحقائق الجارحة التي يتطلب تخريجها الواقعي، على الأرض، أوقاتاً بطيئة. دموية في الغالب، كما ترون، وتعاينون. ليس من غرابةٍ فائقةٍ تُذكَر، في استبصار هذا الحدس، ذلك أن العقل الكياني هذا، يملك سطوة أن يلتقط الحقائق، بقوة الشحنات الجمّة التي فيه، والتي تستشعر، قبل غيرها، علامات الزمن المنبئة بالزلازل وتبدّل المصائر.
لقد انتهى لبنان. أقصد دولة لبنان الكبير، وهي نفسها لبنان الميثاق، ولبنان الدستور، ولبنان الطائف على السواء. لم تعد تنفع المناصفة التاريخية “المنافقة” في إدارة الشأن اللبناني، ولن تجدي نفعاً كلّ المحاولات الرامية إلى فرض المثالثة التي تتوّج غلبة “حزب الله” في المعادلة الداخلية، لأنها تدور في حلقة القضم والاستئثار والكيدية والغبن، وهي الحلقة المفرغة نفسها التي ستفضي حتماً إلى إعادة تفجير لبنان. كلّ ما ينفي هذه التصوّرات، يقع إما في باب المكابرة الخاوية، وإما في باب التكاذب العفن، وإما في باب فرض الحلول بالقوة المستبدّة والغابنة. الاحتمالات الثلاثة هذه، متلاقيةٌ في مكانٍ ما، ومفضيةٌ كلّها إلى الطريق المسدود نفسه.
لم يعد يجدي في هذا اللبنان أن يستبقيه أهله، أمّه خصوصاً، وأبوه، في غرف العناية الفائقة، مدجَّجاً بالآلات الاصطناعية، ومعزَّزاً بأنابيب الإنعاش القسري، إلاّ لدواعي إنضاج الظروف الموضوعية التي تتيح بلورة إحدى الصيغ البديلة… أو لاختيار الوقت المناسب لإعلان موته النهائي الذي لا قيامة له منه.
لم يعد جائزاً التلذّذ برؤية لبنان، وهو يحشرج. لقد مات هذا اللبنان بالسكتة الكيانية. ومن واجب القتلة، الاعتراف بهذه الحقيقة. كلّ ما عداها، من مسرحيات، ومكابرات، واستيهامات، دامية أو زاهية، هراءٌ بهراء. كلّ ما يقال عكس ذلك، بالعواطف الجيّاشة حيناً، وبالأكاذيب الخبيثة أحياناً، إن هو إلاّ من باب ذرّ الرماد في عيون العقل، لإيهامه بأن ما يشهده من وقائع ليس حقيقة بل محض سراب. لا تغرّنّكم الأنفاس، فهي حشرجات. كلّ ما يتلجلج في هذا اللبنان ليس سوى صدىً لارتجافات الروح، وقد فارقت الجسم إلاّ قليله القليل.
ما تحفل به حياتنا اللبنانية من صعودٍ ماجنٍ وعاهر للغرائز والخطب والاستعراضات القاتلة عند الجماعات والطوائف والمذاهب والأحزاب، المكوِّنة لدولة لبنان الكبير، وما تفرّع عنها، ونشأ على ضفافها، من أجسامٍ وطفيليات، مما لم نحسن إدراجه في صلب الوطنية الدولتية، باعتبارها تكويناً هيكلياً ودستورياً وتقنياً، خلاّقاً ولاحماً، هو في مجمله إنذارٌ صارخٌ بضرورة استشعار الأخطار المهدِّدة لقوة الوجود والاستمرار.
لم يعد في مقدور لبنان هذا أن يستمرّ، بسبب تدمير فلسفة روحيته الشعرية التي قام عليها. وإذا استمرّ هذا اللبنان، فبالكذب القسري، وبالهرب المفتعل إلى الأمام، ولكن إلى حين.
المكابرة الساذجة من جهة، والإحساس المقيت بالغلبة من جهة مقابلة، من شأنهما وأد احتمالات الأمل الموضوعية البديلة، والحؤول دون تبلورها في بنية دولتية لامركزية، تتأطر في مركزية كينونية قابلة للتجسد في أجسامٍ وهيكلياتٍ إدارية خلاّقة، ملائمةٍ للعيش الموضوعي، والسيرورة المركزية.
أعرف أن الزمن هو زمن اللعب في الوقت الضائع. ليس أمام الخلّص سوى إرسال الإشارات التي تؤهّلهم ليكونوا على قدر ما يتطلّبه إمرار الوقت الضائع، بأقلّ ما يمكن من الأضرار.
قد ينزل هذا الكلام منزلة الاستهجان لدى البعض. فليستهجنوا. وقد يبدو الكلام هذا، لدى البعض الآخر مستحبّاً. فليستحبّوا. هو كلامٌ، لا أرتضي لغاياته وأهدافه، لا أن تندرج في باب الاستهجان، ولا في باب الاستحباب. الجميع سيأكلون الحصرم، والجميع سيضرسون، مذ راح الجميع يتنكرون لفلسفة هذا الوجود الكيانيّ، الحرّ والنادر، في المنطقة العربية، بل في العالم الشرقي برمته.
لستُ من دعاة الاستسلام أمام هذه الدعارة السياسية – الطائفية – الأمنية التي تتحكم برقاب مجتمعنا ودولتنا ومصيرنا. كما أن كلامي هذا لا يندرج في باب القرف الانفعالي، بل هو – بتواضع جريء – وعيٌ للضرورات الكينونية، التاريخية، الوجودية، والثقافية، القصوى. وهو جلوسٌ عقليٌّ ممضّ أمام بيدر اللحظة الكيانية، المفارقة، يملي عليَّ هذا النوع من التعبير الحدسي، وقد بات، في رؤى بصيرتي، شبه حقيقةٍ واقعة. بل أكثر. بل أوضح. بل أوضح وأدهى، بسببٍ من عدم قدرة اللبنانيين على قبول بعضهم للبعض الآخر إلاّ من منظور الاستقواء والغلبة والإلغاء، وبسببٍ من عجزهم الدؤوب عن اجتراح تصوّرٍ دولتي ديموقراطي كريم لمصيرهم المشترك.
صدِّقوا هذا الافتراض. أو افترِضوا، من باب الجدال، أنه صحيحٌ، أو هو على شيء من قابلية التحقق والاحتمال. وعليه، ليس من لزومٍ للتباري في “حبّ” لبنان المتذرّر والمندثر هذا، على أيدي شيعته وسنّته ومسيحييه ودروزه، ولا لتبادل الاتهامات والتخوينات في ما بين هؤلاء. جميعهم “أحبّ” لبنان، و”يحبّه” بما فيه الكفاية، وكلٌّ على طريقته. لكن جميعهم “خان” لبنان و”يخونه”. هذا بنسبةٍ، وذاك بنسبةٍ أخرى. ثمة مَن يخون الكينونة، لأنه يريد الاستئثار. وثمة مَن يخونها لأنه لا يعرف أن يحمي ويصون. النتيجة واحدة.
لا تفيد “المؤتمرات” ولا “الحوارات”. ولا الاستغاثات الدولية أو الإقليمية. ولن تفيد خطب اليقينات واليقينات المضادة. ولا الحدّة في اللفظ البائد. إنه الوقت الضائع. فليُمِرّه الأطراف اللبنانيون بترفّع وكرامة ورباطة جأش، كي لا يواصلوا الفتك بوهن الأمل الأخير، وكرامته.
كلّ ما عليهم أن يفعلوه هو الآتي:
– لمرةٍ واحدة، رفض الخارج، الخارج كلّه، والاحتكام إلى مكوّنات الداخل، بعيداً من استشعارات الغلبة أو الاستئثار، على غرار ما تفعله الجماعات والمكوّنات اللغوية أو الإتنية أو العرقية أو الدينية في بعض البلدان لتدبير إدارة شؤونها الذاتية والعمومية.
– لمرةٍ واحدة، رفض “الداخل” الطائفي والمذهبي كلّه، من خلال رفض اختزال الشخص بجماعة، والجماعة بحزب، والحزب بقائد، والاحتكام إلى الفرد المواطن.
– لمرةٍ واحدة، رفض العنف بكلّ أشكاله، العنف الطائفي والعنف المذهبي والعنف العشائري، والعنف “المقاوِم”، والعنف المضادّ للعنف “المقاوم”، والبحث عن سلام لبنان، هذا البلد الحائز جائزة أطول حرب أهلية في تاريخ البشرية.
– لمرةٍ واحدة، أخذ العبرة من إخوة وأصدقاء وجيران عرب لنا، وإطلاق حركة “تمرد” وطنية على العنف وأصحابه، إلى أيّ حزبٍ أو طائفة انتموا او دولة.
لبنان انتهى. الحلّ الحقيقي البديل، واقعيٌّ وداخليٌّ محض، يجترحه هؤلاء، ويُجترَح بهم. فليجترِحوه. وإلاّ، على لبنان واللبنانيين السلام!

يهمّني على هامش هذه الذكرى الاستقلالية البائسة، كما على هامش هذا الكلام الكياني، الثقافي، المتجرئ، أن ألفت إلى أهمية التحفظ التاريخي الذي لا بدّ أن يبديه رهطٌ من المواطنين المدنيين العلمانيين، وأنا منهم، حيال استئثار الجماعات المذهبية والطائفية، المتخلفة والمقيتة، التي تناتشت لبنان الدولة، وتناوبت عليه، وهشّمته، وهمّشته، وتقدّمت عليه، لتفضي به إلى هذا المصير.
سيظلّ هؤلاء المواطنون يقيمون في القعر الخفيّ من روح لبنان، ينجزون الهواء، ويخترعون الأمل والشعر والجمال، إلى أن يجيء وقت الضوء، الذي يُجلِسون فيه قمر الحرية والمواطنة فوق ذرى الأرض المسمّاة لبنان، بشعرية كينونتها أولاً، ثمّ بعقلنة مفهوم الدولة الديموقراطية، في الأقضية كلّها، وفي العاصمة، والمحافظات.

السابق
ورشة عمل حول البحث الاستقصائي المرئي
التالي
سبعون عاماً