المؤسّسة الدينية والعصر1: شيوخ دنيا أم شيوخ آخرة؟

ديني
إنخفض معدّل الحريّات في العقود الأخيرة داخل الحوزات الدينية، ما قهر النهضة وغيّب التفكير والرغبة في التغيير وغيّب الحوزة عن الواقع. وهناك خلاف كبير بين مرجعتي قم والنجف، أبرز أسنانه: هل المؤسسة الدينية مهمتها شؤون الناس في الدنيا، أما إرشادهم إلى ما فيه صلاح آخرتهم؟ في الحلقة الأولى من هذا البحث لحيدر حبّ الله محاولة للإجابة.

أودّ هنا أن أسلّط الضوء على بعض المفردات التي تمثل تحدّيات معاصرة تواجه الحوزة العلميّة والمرجعيّة الدينية، لأنّ استيعاب جوانب الموضوع يبدو ضرباً من المستحيل عملياً. وسوف أنطلق في المفردات التي سأختارها ليس من تنظير عام، بل من معايشة واقعيّة ملموسة بالنسبة لي شخصيّاً في إطار التركيز على الحواضر العلميّة الكبرى.

وقبل أن أبدأ تهمّني هنا الإشارة إلى أنّ الحاضرة العلميّة (قم) تمتاز بتكوّنها ـ حوزوياً ـ من جسمين كبيرين: الأول هو الجسم التقليدي الذي يشكّل العصب الحيوي الممسك، وما يزال، بالكثير من مفاصل الأمور الحوزوية والدينية، وهو المتمثل في كبرى المرجعيات الدينية مع الطبقة الأولى من الفقهاء البارزين.. والثاني هو الجسم البحثي المتمثّل في عددٍ لا بأس به من مراكز الأبحاث والدراسات، والذي قد نجد فيه الكثير من العناصر التجديدية أو المختلفة، لكنّه ما يزال غير قادر على تخطّي مركز الدائرة أو حتى التحرّر منه.

وسوف يدور كلامي المتواضع هنا حول الجسم التقليدي، كونه المعبِّر الأوفر حظاً عن الموقف الرسمي، كما أنّ كلامي سوف يتمحور حول المؤسّسة الدينية بجسمها التقليدي الرئيس، وليس حول الحركة الإسلاميّة أو الدولة الدينية، لأنّني أعتقد أنّ الحركة الإسلاميّة بأطيافها قد قامت بالكثير من الأدوار نيابةً عن المؤسّسة الدينية. كما سأركّز على بعض الإشكاليّات، لأنّها تحدّيات معاصرة. والحديث عن الإشكاليات لا يعني عدم وجود إيجابيات، بل لأنّ محور الكلام هو التحدّيات، لهذا ناسب الحديث عن هذا المعنى.

1 ـ تحدّيات تعيين دور المؤسّسة الدينية وتعريفه:

أوّل القضايا الشائكة اليوم والتي تمثل تحدّياً ميدانياً، هو تحديد دور المؤسّسة الدينية في حياة المسلمين وتقديم تعريف دقيق له. إنّ ما أعتقده شخصيّاً هو أنّ انطلاقة المشروع الإسلامي منذ الخمسينيات وضع الحوزة العلمية أمام: دور / صلاحيات / مسؤوليّات / موقعيّات مختلفة إلى حدٍّ ما عن المرحلة السابقة، فقد تنامت صلاحيّات الفقهاء والمراجع، واتسعت رقعة نفوذهم وتدخّلهم، وبسطت يدهم ليتحمّلوا مسؤوليات أكبر بكثير من الماضي.

القضية ليست مجرّد عنوان أو طرح فقهي اجتهادي. إنّه واقع فرض تحدّياته على الحوزات العلمية وأثقل كاهلها، وألزمها ما لم تعرف لزومه من قبل، فقد تضاعفت المسؤوليّات عموماً وازدادت المطالب الشعبية والنخبوية. إذ كلّما وسّعت من صلاحيّاتك وموقعك ومجال نفوذك كان من الطبيعي أن تزداد أشكال المطالبة لك بالقيام بوظائفك، نظراً الى العلاقة الجدليّة بين الوظائف والصلاحيّات، وبين ما لي وما عليّ.

في ظنّي البسيط أنّ المؤسّسة الدينية لم تكن تملك مقوّمات إعداد جسم مؤهّل للاستجابة للمطالب والتحدّيات بعد أن وسّعت دائرة حضورها تحت تأثير نظرية «ما من واقعة إلا ولها حكم»، ففوجِئت بحجم التحدّيات والتساؤلات والإشكاليّات، ووقع فيها الانقسام للخروج من هذا الواقع إلى فريقين:

أ ـ فريقٌ يبذل قصارى جهده للاستجابة للمسؤوليّات الجديدة رغم المتاعب والمصاعب.

ب ـ وفريقٌ يدعو لإعادة النظر فيما يعتبره توريطَ لأنفسنا في مساحة عمل ليست ضمن مسؤوليّاتنا، (وأكرّر: مسؤوليّاتنا كحوزة علميّة لا كإسلام أو أمّة أو دولة)، وهو الفريق الذي يرى أنّ المطلوب هو التخلّي عن وضع: السلطة ـ المال ـ مرجعيّة القرار، في يد المؤسّسة الدينية، حيث يرى ـ مثلاً ـ أنّ على المجتمع المدني أن يتولّى قضايا الفقراء وليس المؤسّسة الدينية فقط، والأموال الشرعية يجب أن تكون هناك أيضاً بدل أن نحمل مسؤوليّتها لوحدنا ونطالب بنتائجها. كذلك يرى هذا الفريق أنّ المؤسّسة الدينية ليست هي المسؤولة عن دنيا الناس، بل هي مجرّد مرشد لهم لآخرتهم، ومسؤوليّتها تكريس المفاهيم الروحيّة والأخلاقيّة، ونشر التعاليم الدينيّة والشرعيّة وبيانها، ودعوة الناس إلى الخير والمعروف. فبدل هدر طاقات رجال الدين في دنيا الناس علينا تركيز طاقاتهم في قضايا آخرتهم مما فيه أيضاً صلاح دنياهم إن شاء الله، تماماً كالسفينة المشرفة على الغرق لحمولتها، فإنّ الحلّ هو رمي الحمل الزائد لإكمال السير بهدف الوصول إلى شاطئ الأمان.

ما يبدو لي تحدّياً اليوم هو هذا الموضوع: ما هو حجمنا المفترض كمؤسّسة دينية؟وما هي مسؤوليّاتنا بالضبط؟ وما هي صلاحيّاتنا؟ أسئلة عامة وقد تكون مكرورة، لكنّ الواقع يلحّ على تقديم أجوبة جادّة وميدانية لها، ضمن النظريات الاجتهادية المختلفة، وملاحظة الواقع والتجارب الميدانيّة التي تمّ خوضها حتى الآن. وهذه الأسئلة هي إحدى حلقات الخلاف النظري والعملي بين حوزتي قم والنجف فيما أخمّن.

2 ـ تحدّيات سؤال الحريّة في الداخل الحوزوي:

التحدّي الآخر الذي يواجه الحوزة العلمية اليوم في حواضرها الكبرى هو تحدّي الحريات، لا سيما في العقد الأخير. فقد انخفض مستوى الحريات في الداخل الحوزوي بشكل ملاحظ خلال الفترة الأخيرة، وهذا ما بات يشكّل قلقاً على حركة التنمية الفكرية والثقافيّة، وعلى قدرة المؤسّسة الدينية على تقديم الأفكار والحلول لقضايا الواقع المتصلة بها. ولا أعني بقضيّة الحريات سجن “مجرمي الرأي” أو تصفيتهم جسدياً، بقدر ما أعني ممارسة مختلف أشكال الحجر عليهم والضغوط، بحيث يخلق ذلك جوّاً ومناخاً عاماً بالخوف من التفكير الجديد أو على الأقلّ بعدم جدواه، كونه لن يحظى بترحيب أو احترام في الداخل الحوزوي، إلا عند بعض الطبقات الشابة المبعثرة ضعيفة النفوذ والتأثير.

وأحد أسباب هذه الظاهرة مؤخّراً هو غياب توازن القوى والنفوذ داخل المؤسّسة الدينية، إذ عندما لا نملك توازناً من هذا النوع فإنّ فسحة العمل سوف تتلاشى أمام الكثيرين، وليست السياسة بالبعيدة عن اختلال توازن القوى في الحوزات الأمّ.

والأكثر صعوبةً في موضوع الحريات هنا هو تلك التبريرات الاجتهادية التي يقدّمها الآخر لممارسة أشكال قمعه هذه، إذ عندما تهيمن هذه التبريرات ـ من نوع الضلال والبدعة والكفر وهتك الدين أو المذهب أو إضعافهما.. ـ سوف تخلق في وعي الشباب الحوزوي قلقاً داخلياً، سيكون هو بنفسه مانعاً حتى عن محاولة التفكير في الأمور الجديدة والأفكار المختلفة، وسيفضي ذلك إلى ضمور حسّ المسؤوليّة الفكرية وحماسة التفكير وخلق الجديد.

كما أنّ أزمة الهويّة والخوف على الذات والعنوان والوجود، وكلّ جديد، سوف تطيح بميزان الأولويات، وسيصبح الأمر الطقوسي أكثر أولويّةً من حلّ معضل العلاقة بين الدين والحداثة مثلاً، وكلّنا يعرف أنّ اختلال ميزان الأولويات في العقل كاختلال ميزان الحرارة في الجسم، سوف يقوم بتدمير الطاقات وقتل عناصر القوّة واستهلاكها في الفراغ، ولهذا نحن نشهد في الداخل الحوزوي مؤخّراً ـ إلا في بعض الأوساط ـ غياباً لكلّ مقولات النهضة والواقع لصالح مقولات التمترس والتقوقع والتحسّس والتحليق في الفضاء.

السابق
إرهاب على باب السفارة الإيرانية .. القاعدة تعرقن لبنان
التالي
آبادي ينجو ومقتل المستشار الثقافي وأربعة من حراس السفارة