السفير: الانتحاريون يضربون في بيروت: 170 ضحية

كتبت “السفير ” تقول: لم يكن صباح بيروت، بالأمس، طبيعيا، بل كان صباحا مخضبا بدماء 170 ضحية من الابرياء، فيهم الرجال والنساء والاطفال، وفيهم عابرو السبيل سعيا الى الرزق، ذنبهم الوحيد، أنهم يعبرون شرايين مدينتهم، يوميا، كي يضخوا الحياة في شوارعها ومدارسها ومتاجرها وأحيائها الفقيرة والغنية في آن معا.
عشرات العائلات اللبنانية أصيبت بخطف أرواح أعزائها، أو بجراح ستبقى آثارها محفورة في الأجساد الطرية والشقق المشلعة والمركبات المتفحمة، وذلك بفعل فاعل لا اسم له ولا دين، الا هوية صناعة الموت المجاني على أرصفة مدينة صارت تختزل في جنباتها كل تناقضات الاقليم وصراعاته، فكيف في لحظة احتدام سورية، صار لبنان كله عمليا في صلب ميدانها؟
إنه جنون ما بعده جنون. فالسفارة الايرانية في بيروت، كما أي سفارة، يمكن أن تتحول الى هدف، وقد يجد الساعي اليها أو لغيرها، ثغرة يتسلل منها، حتى يصيبها مباشرة أو مواربة، لكن الاصابة الأكبر هي لبيروت. بيروت التي تختزل في اقتصادها واجتماعها كل لبنان وتشكل عنوانا مضيئا لكل العالم العربي والاسلامي.
أصاب الحاقدون شارعا ومنطقة وسفارة بنارهم وانتحارييهم، لكنهم جعلوا القلق يزنّر كل بيت لبناني من الشمال الى الجنوب مرورا بالجبل والبقاع والضواحي الناشئة كمنطقة بئر حسن، بفعل ارادة لبنانيين، يمخرون عباب الخطر في أدغال أفريقيا والمغتربات، سعيا الى عيش كريم لهم ولأبنائهم وكل أهل بلدهم.
فللمرة الأولى منذ أن وجد لبنان نفسه، قبل أقل من ثلاث سنوات، على موعد مع فالق زلزالي اقليمي هو الأخطر في تاريخه الحديث، فجر انتحاريان نفسيهما، صباح أمس، بسفارة ايران في بيروت، في لحظة اقليمية ودولية مفصلية، بدا معها، أن هذا الفعل من صناعة متضررين وجبناء ومعترضين على بعض مسارات المنطقة.. ولعل اسرائيل تحتل المرتبة الأولى في لائحة المصنع الاقليمي ـ الدولي الساعي لتفجير لبنان والمس بالبيئة الحاضنة للمقاومة.
اعتبارا من صباح أمس، يمكن القول ان لبنان لم يعد ساحة احتياط، بل صار جزءا من اشتباك اقليمي وربما يتحول الى اشتباك دولي، بين من يريد وقف حمام الدم والارهاب وبين من يصر على مد هذه المجموعات بالدعم مالا وسلاحا و”جهاديين” جاهزين غب الطلب الاستخباراتي، كما أثبتت التجارب من أفغانستان الى العراق وسوريا مرورا بالحادي عشر من ايلول في نيويورك والكثير من ساحات المنطقة والعالم.
.. وما بعد تفجير السفارة الايرانية في بيروت يختلف بالتأكيد عما قبله، بعدما رسمت الرسالة الدموية الموجهة الى طهران وحلفائها خطا فاصلا بين مرحلتين.
هذه المرة، اتخذ نمط المواجهة منحى مغايرا، من حيث الشكل والمضمون، ليفتح الباب على احتمالات خطيرة، يصبح معها مصير البلد متوقفا على كبسة زر من انتحاري، وما يدعو الى القلق انه يستحيل لأي اجراءات أمنية ان تتعامل مع شخص قرر تفجير نفسه… بالطلب.
في الشكل، كشف التفجير المزدوج، أمس، عن تبدل الادوات المستخدمة في العمليات الارهابية التي كانت تعتمد على السيارات المفخخة والعبوات الناسفة والصواريخ، فإذا بظاهرة الانتحاريين تقتحم الساحة اللبنانية، عبر بوابة السفارة الايرانية، للمرة الاولى منذ بداية الأزمة السورية، ما يعني ان هناك من اتخذ قرارا كبيرا باللجوء الى أسلحة “محرمة” في المعركة المفتوحة في لبنان.. والمنطقة.
والخطير في ما جرى بالامس، معطوفا على تفجيرات بئر العبد والرويس وطرابلس وسيارة المعمورة المكتشفة، انه يكرس تحويل لبنان من “ساحة نصرة” الى “ساحة جهاد” تحاكي ما يحدث في العراق وسوريا، استنادا الى نهج “القاعدة” وأخواتها، لا سيما ان أسلوب الهجوم الانتحاري الذي جرى استخدامه ضد السفارة الايرانية هو من اختصاص هذا التنظيم ومشتقاته.
وعليه، فإن “غزوة” البارحة تنهي النقاش السابق حول ما إذا كانت فروع “القاعدة” موجودة في لبنان ام لا، ليصبح السؤال من نوع آخر: من يوجه الجماعات المشتقة من”القاعدة” ويستخدمها ويؤمن لها البيئة الحاضنة، وما هو الحجم الذي بلغه انتشارها في الجسم اللبناني، وهل صحيح ان هذه البؤر معروفة ومحددة، لكن افتقار القوى العسكرية والامنية الى الغطاء السياسي الحقيقي يحول دون الوصول اليها؟
أما في أبعاد الهجوم الانتحاري، فيمكن القول انه يؤشر الى بلوغ الصراع على سوريا داخل لبنان منعطفا خطيرا، ضُربت معه “قواعد الاشتباك” التي كانت تتحكم بإيقاع المواجهة حتى ما قبل التاسعة والنصف صباح أمس، ذلك ان الاعتداء على السفارة الايرانية يشكل تحولا غير مسبوق في “بنك الأهداف” لدى الجماعات المتطرفة والتكفيرية، الامر الذي ينطوي على تصعيد كبير، من شأنه ان يخلط الأوراق.. بل يمزقها.
ولا يخلو التوقيت ايضا من الدلالات، إذ تزامن الاعتداء على السفارة الايرانية مع بدء معركة القلمون المحورية التي تشكل نقطة ثقل استراتيجية لفصائل المعارضة السورية المسلحة وتحولت الى منطلق لتنفيذ عمليات تفجير في الداخل اللبناني. كما جاء متزامنا مع استئناف جولة جديدة من المفاوضات الايرانية – الدولية قد تفضي الى تفاهم تاريخي، سيترك آثارا مباشرة على العديد من الملفات الاقليمية والدولية.
وبينما لوحظ ان السعودية لم تكن حتى ساعة متقدمة من ليل أمس قد اصدرت أي بيان تنديد بالهجوم على السفارة الايرانية، سجل سيل من الاستنكارات الاقليمية والدولية، بدءا من مجلس الامن مرروا بموسكو ودول الاتحاد الاوروبي وبعض الدول العربية، وصولا الى الادارة الأميركية بلسان البيت الأبيض ووزير الخارجية الأميركي جون كيري الذي أعلن أن الولايات المتحدة “تدين بقوة الاعتداءين الإرهابيين الوحشيين والدنيئين ضد السفارة الايرانية في بيروت”.
وكان لافتا للانتباه ان طهران تجنبت الانزلاق الى أي موقف انفعالي في أعقاب التفجير الانتحاري، ووجهت الاتهام حصرا الى الكيان الصهيوني.
أما على المستوى الداخلي، فقد لوحظ ان الأطراف الداخلية المتصارعة، التقت على إدانة التفجير المزدوج، وهو قاسم مشترك يكاد يكون نادرا في هذه الايام، بعد استفحال الانقسام السياسي مؤخرا واتخاذه طابعا حادا.. فهل يمكن ان تدفع المخاطر الداهمة نحو صحوة وطنية، تعيد ترتيب الاولويات وتفتح الابواب المغلقة امام الحوار والحكومة ومجلس النواب، ام ان الصراع على الخيارات الاستراتيجية هو أكبر وأعمق من أي مبادرة داخلية؟

السابق
النهار: القاعدة إيران وجهاً لوجه في لبنان
التالي
المستقبل: مقتل 24 وجرح 150 وإدانة محلية وخارجية واسعة ..