معركة «القلمون» تزيد مخاوف «التماس اللبناني»

بينما كانت الصواريخ تتساقط على طول الخط الممتد من بلدة النبي شيت في سلسلة جبال لبنان الشرقية، إلى منطقة الشواغير على ضفاف العاصي في الهرمل، أحصت مصادر محلية سرقة عشر آليات من نوع «بيك آب» في منطقة بعلبك خلال عشرة أيام، تولى المهربون لاحقا بيعها الى المسلحين السوريين عبر معابر التهريب الترابية المتعددة.
المفارقة اللافتة للانتباه، أن آليات «البيك آب» هي نفسها التي سيركز عليها المسلحون قواعد قاذفاتهم ليستهدفوا القرى والبلدات اللبنانية لاحقا، وربما تصيب حممها منازل من سرقوها أو باعوها أو هربوها… وطبعاً ستكون وسيلتهم الأساسية في تنقلاتهم في المنطقة التي تسيطر عليها المعارضة السورية المسلحة.
التهريب الذي عمره من عمر اتفاقية «سايكس – بيكو» صار السلاح سلعته الأساسية، إثر انسحاب الجيش السوري النظامي من معظم المقلب السوري الجردي، في جبال القلمون، وتركيز وحداته على الأوتوستراد الدولي الذي يؤمن التواصل بين الشام وحمص، وصولاً إلى الساحل السوري الشمالي.
لم يعد السؤال في القرى والبلدات اللبنانية التي تلتحف سلسلة جبال السلسة الشرقية، هل بدأت «معركة القلمون» أم لا؟ صار القلق خبزاً يومياً… من مشاريع القاع المتاخمة لجوسيه في ريف القصير وحاضنتها عرسال المتربعة على المساحة الأكبر من الحدود، وصولاً إلى النبي شيت على تخوم المنطقة المؤدية نحو الزبداني السورية.
ما بين مشاريع القاع والنبي شيت، تتوالى قرى القاع وراس بعلبك ومن فوقهما عرسال فنحلة ويونين وبريتال ومعها حام ومعربون، ثم جرد بعلبك وصولاُ إلى النبي شيت. تلك هي القرى اللبنانية التي تلامس الجرود السورية في السلسلة الشرقية. لكن الحذر مما يجري في سوريا واحتمالات تأثيره لا ينحصر بقرى التماس بل يطال مجمل البقاع الشــمالي.
يتشارك أهل كل تلك القرى والبلدات همّ الأمن، ولو أن الحصص تأتيهم بـ«التقسيط» كما يقولون حتى الآن. صواريخ على القرى وخراجاتها وصولاً إلى عمق الهرمل وأنحاء من بعلبك، وقصف جوي سوري يطال عرسال ومحيطها بين حين وآخر.
ولعرسال الحصة الأكبر من القلق. بلدة استفاقت من الصدمة السورية لتجد على أراضيها عشرات آلاف النازحين و«الحبل على جرار» التطورات في القلمون والنزوح اليومي الذي ازدادت وتيرته مؤخراً، بدليل نزوح نحو ثمانية آلاف من بلدة قارة السورية الى عرسال في اليومين الماضيين.
وعلى ضفاف القلق، يحافظ الناس على بعض مظاهر الفرح والإلفة التي كانت سائدة بين جيران الحدود منذ عشرينيات القرن الماضي ولغاية اليوم. قبل نحو عشرين يوماً، قصد أهالي نحلة منطقة راس المعرة وأتوا بعروس ابن نحلة رياض اليحفوفي من سوريا. اقتصر الفرح على وجبة الغداء في الداخل السوري، بينما رافق عدد من السوريين العروس إلى نحلة حيث أقيمت الأفراح. وها هم الأهالي ما زالوا يشاركون بعضهم الأحزان عندما يتسنى للطرفين الوصول عبر الجبال الوعرة ومطباتها الأمنية.

جغرافيا القلمون
من على إحدى تلال سلسلة جبال لبنان الشرقية، وبالتحديد في جرد رأس بعلبك، ما بين مشاريع القاع وعرسال، يرسم أحد أبناء منطقة يبرود القادم إلى الهرمل، حدود منطقة القلمون وخريطتها الجغرافية. يقّسمها ما بين القلمون «الفوقاني» والقلمون «التحتاني».
يقطع تاجر المواشي الحدود بواسطة «بيك آب» مسجل رسمياً مرة كل أسبوع تقريباً، بين يبرود والهرمل. يعبر حواجز الجيش اللبناني في الجرود والنقاط الشرعية من دون أي عوائق، كما يمر بالمسلحين ونقاطهم في المقلب السوري. يقول ان معظم المقاتلين في المنطقة هم من الذين وفدوا من القصير وريفها.
يضع ابن يبرود منطقة «جندر» المفتوحة على حمص بموازاة الأوتوستراد الدولي كحجر زاوية لجغرافيا القلمون، صعوداً نحو قارة ويبرود والنبك ودير عطية، وصولاً إلى صيدنايا والقطيفة المفتوحتين على الزبداني في ريف دمشق.
ويقسّم تاجر المواشي قرى القلمون الجردية ما بين مناطق على تماس مباشر مع لبنان، وأخرى «خط تماس ثان» من الناحية السورية.
وكخط مباشر مع البلدات اللبنانية، نبدأ من ريف القصير نحو قارة فالجراجير والمشرفة وصولاً إلى راس المعرة حيث يلتقي جرد عرسال مع جرد نحلة، ثم الجبة وعسال الورد ورنكوس وتلفيتة ثم صيدنايا.
وفي الخط السوري الثاني، تقع دير عطية وراء قارة.. والنبك وراء الجراجير، ثم يبرود وبخعة ومعلولا وحوش عرب وسدر. ولكل من الخطين أهميته الاستراتيجية لكل من لبنان وسوريا، وإن اعتبرا منطقة واحدة مع سيطرة المسلحين، على اختلاف تسمياتهم، على معظمها.
وتكمن أهمية خط التماس الأول انه ملاصق للقرى اللبنانية وخصوصاً للشريط الشيعي الذي يتقاسم مع عرسال ومشاريع القاع هذا الجزء من سلسلة جبال لبنان الشرقية، بينما يولي السوريون الاهتمام الأكبر للخط الثاني، الذي يعتبره الجيش السوري النظامي خط تماس أول كونه ملاصقا للمنطقة المحاذية للطريق الدولية بين العاصمة دمشق وحمص ومنها إلى طرطوس واللاذقية في الساحل السوري وهي الطريق التي يحرص الجيش النظامي على السيطرة عليها مهما كلف الأمر..
ومع الوصول إلى أوتوستراد الشام ــ حمص، ينهي ابن يبرود تقسيم الجزء الجبلي ــ الجردي من القلمون، ليبدأ بالقلمون المترامية تحت الطريق الدولية والمفتوحة نحو العمق الشامي بغوطتيه الشرقية والغربية.
وعلى المقلب الآخر للأوتوستراد، أي الجهة المفتوحة على الشام، تمتد بادية النبك ودير عطية والناصرية والمعضمية وجيرود والرحيبة التي تنفذ نحو القطيفة. وتعرف هذه المنطقة في الجغرافيا السورية بـ«القلمون التحتاني».
ومع تركيز الجيش النظامي على حماية طريق الشام ـ حمص الدولية وصولاً إلى الساحل، يرى مصدر عسكري أن المعركة الأهم هي التي قطعت خط الإمداد العسكري والتسلحي، وفق ما كان يخطط له، من البحر في شمال لبنان عبر ريف القصير نحو القلمون. وعليه، لم تعد القلمون «الفوقاني» بالأهمية الاستراتيجية نفسها التي كانت عليه يوم كان هذا الخط التسلحي قائماً.
ولا يقلل ذلك من خزين المسلحين في القلمون، والذي تغذى مع لجوء عدد كبير من المقاتلين، وخصوصاً الإسلاميين منهم، من القصير وريفها نحو جرود القلمون. وطبعاً لا يخفي قلق أهالي الشريط الشيعي من الصواريخ التي تستهدفهم بين وقت وآخر، ولا حذر عرسال ومشاريع القاع وأسئلتها المفتوحة عن «حصتها» من التوتر مع الصيت الذي لاحقها بوجود آلاف المسلحين على أرضها.
وللقلمون حسابات أخرى في الأجندة الأمنية اللبنانية مع المعلومات التي تحدثت عن تجهيز السيارات المفخخة فيها وتصديرها نحو مناطق لبنانية من هوية مذهبية محددة.

عرسال
يقول ابن عرسال، عبد العزيز الفليطي، ان البلدة اتخذت قراراً نهائياً وأبلغته للجهات السورية المعنية بالمعارضة وللموجودين على أراضيها: «نحن نحتضن السوريين النازحين إنسانياً، ولا نريد مزيداً من التوتر مع محيطنا. فمن يرد القتال إلى جانب النظام فليذهب إلى سوريا، ومن يرد القتال مع المعارضة، فليذهب إلى هناك أيضاً».
حصل بعد سلسلة اجتماعات لفعاليات البلدة وبلديتها مع تدهور الأوضاع في عرسال ووصول مسلحي الجرود إلى شوارعها بكامل عتادهم أحياناً. انتهت الاجتماعات إلى إبلاغ من يعنيهم الأمر «أنتم ضيوف عندنا فاحترموا مضيفيكم»، وفق الفليطي.
يرى الفليطي أن همّ عرسال اليوم هو «الخوف من تزايد عدد النازحين أكثر مما هو عليه الآن، حيث لامس سقف الستين ألفا». وصل عدد التلامذة السوريين في الابتدائي في مدارس عرسال الرسمية وحدها إلى نحو ألفي تلميذ، غير الذين تحتويهم المدرسة الخاصة بالنازحين، «وهناك تلامذة التكميلي والثانوي وهم كثر أيضاً».
ومع المواجهات المتفرقة في منطقة القلمون، يتدفق النازحون من القرى السورية معتمدين على علاقات الجيرة التاريخية مع عرسال. وتحتار البلدة في كيفية تدبير أمورهم . «فالصقيع قتل طفلاً نازحاً قبل أيام معدودة في إحدى الخيم في البلدة» يقول أحد النازحين.
وإلى جانب هم النازحين، تحاول عرسال استباق تطور الأمور في القلمون عسكرياً بتنفيذ قرار عقلاء البلدة «الذي يأتي البلدة من سوريا على خلفية معركة القلمون سياتيها نازحاً وليس محارباً».
وبموازاة مخاوف أهالي عرسال، يضحك أحد الأشخاص المواكبين لما يجري في البلدة من كثرة الأيادي التي تلعب بأوضاع النازحين فيها. يقول ان ضبط الوضع استدعى تشكيل تنسيقية لتمسك بزمام أمور النازحين.

نحلة
من عرسال التي تمسك بنحو أربعين كيلومتراً من الحدود مع سوريا في سلسلة الجبال الشرقية، تبدأ جرود نحلة التي تلتقي مع جرود راس المعرة في المقلب السوري في مسافة تصل إلى نحو 17 كيلومتراً بين البلدتين.
يقول رئيس بلدية نحلة السابق علي يزبك ان «علاقة نحلة مع راس المعرة لم تتغير، فقد اتفقت العائلتان الأساسيتان وهما الرفاعي وحيدر في راس المعرة على تحييد بلدتهما عما يجري من حولها». يعيش ما لا يقل عن عشرين عائلة من الرعاة السوريين في جرد نحلة. قضى هؤلاء الصيف في أراضيها، على عادتهم كل عام منذ عشرات السنوات حتى اليوم.
يصل قاصد راس المعرة من نحلة خلال ساعة من الزمن على الدراجة النارية. هذا كان عادياً وطبيعياً قبل الآن. اليوم، لم يعد أهالي نحلة يقصدون سوريا بالوتيرة نفسها التي كانت قائمة قبل الأحداث «فالمسلحون الغرباء هم غير الأهالي». الناس في هذه القرى لا يقلقون من كيفية تصرف الناس العاديين بل مما يقوم به المسلحون الذين يضعون قرى الشريط الشيعي في خانة «حزب الله»، بدليل حوادث الخطف المتكررة في الجرود، مرة بذريعة حصول مشاكل بين المهربين، وأخرى تحت ستار الاعتداء على أملاك البعض من اللبنانيين.
وتخفف الطبيعة الجردية الصعبة للمنطقة من قلق الأهالي. يقول يزبك ان الجيش اللبناني عزز تواجده في المنطقة وينفذ دوريات بشكل دائم في الجرود، والناس ينتظرون ما سيحصل.
الوضع في راس المعرة ليس نفسه في الجبة المفتوحة على جرود نحلة. هنا، في الجبة، يتمركز المسلحون، وينتمي معظمهم الى «جبهة النصرة»، في أحراج اللزاب على بعد نحو عشرة كيلومترات من جرود نحلة. ومع ذلك يقطع رعاة الجبة الحدود على «التراكتورات» يومياً وصولاً إلى نحلة حيث يبيعون حليبهم طازجاً ومنتوجاتهم من الألبان والأجبان. هؤلاء لا سوق سورية مفتوحة أمامهم.

جرد يونين وبعلبك
لا يعتبر اهالي يونين أن لديهم جرداً واسعاً مع سوريا ومناطق المسلحين فيها. يلتقي جرد يونين مع جرد نحلة في قلعة كاتب السورية المفتوحة أيضاً على عرسال في نقطة ترتفع 1800 متر عن سطح البحر.
وليونين خط تماس مع وادي الرعيان في خراج عرسال. أما جرد بعلبك فينحصر في منطقة صغيرة بالقرب من منطقة الجبة السورية، وتسمى الخشعة ووادي جريبان ولا تتعدى مساحة تماسه حوالي أربعة كيلومترات.

بريتال وحام ومعربون
تتصل بريتال بالحدود السورية في القلمون عبر جرود بلدتي حام ومعربون، وفق رئيس بلديتها عباس اسماعيل. يقول: «لا توتر كبيرا في المنطقة، باستثناء القصف الذي يصل بعض القرى اللبنانية من الداخل السوري». وتعتبر بلدة «طفيل» اللبنانية التي كانت تصلها طريق غير رسمية ببريتال الامتداد اللبناني لحدود خراج بريتال نحو سوريا. مع الحسابات الأمنية التي تتفاقم يوماً بعد يوم، انقطعت «طفيل» عن لبنان حتى بطرقاتها الترابية بسبب خطورة السير عليها مع وجود المسلحين في الجانب السوري.
ومن خراج حام معربون، تنفتح سلسلة جبال لبنان الشرقية في هذه النقطة على رنكوس وصيدنايا المفتوحتين بدورهما على الزبداني في الكتف الشامية. يقول اسماعيل ان الجو المتوتر والمضطرب «لا يريح أحداً، والكل ينتظر ما ستؤول اليه الأمور».
من جهته، يروي مختار حام حسين مراد كيف تعبر الصواريخ من فوق البلدتين نحو النبي شيت أو غيرها من المناطق القريبة. يقول ان الأهالي يعتمدون على الجيش اللبناني الذي يتمركز في أكثر من نقطة حدودية.
بالنسبة إليه، لا تكمن هواجس حام ومعربون في تطورات معركة القلمون فقط «نحن لم نتمكن، منذ اشتداد الأوضاع في سوريا، من زراعة أراضينا على الحدود». مشكلة ليست صغيرة في بلدة تعتمد بالأساس على الزراعة. بلدة لا يبدو أن الدولة اللبنانية تلحظها على خريطتها. حتى رعاة البلدتين لم يتمكنوا من السير بقطعانهم نحو أراضيهم الكثيرة المتاخمة لسوريا. يحتاج الراعي إلى مواكبة بفرقة عسكرية لو قرر الذهاب إلى هناك.
بهذا المعنى يقول أحد مزارعي معربون ان «وضع القلمون وكل المنطقة المتاخمة للبنان وقراه ليست ذات أهمية استراتيجية لسوريا فقط، بل لنا نحن سكان القرى المنسية بين أودية ونتوءات سلسلة جبال لبنان الشرقية».
عادة، وفي طقس مختلف عن الصيف الخريفي المستمر حاليا، تكون طرق جرود السلسلة الشرقية قد أقفلت بفعل تراكم الثلوج بدءاً من أواسط تشرين الثاني. الثلوج كانت ستطمئن الناس على جانبي الحدود أكثر مما هو عليه الحال اليوم.
تسير معركة القلمون وفق سياسة «القضم» العسكري نظراً لطبيعة المنطقة التي لا تشي بحصول معارك على طريقة مواجهات القصير. هنا المنطقة مكشوفة على سلاح المدفعية والطيران اللذين يعتبران «بيضة القبان» في السيطرة عليها، على حد تعبير أحد المقاتلين من أبناء المنطقة.

السابق
اغضبوا
التالي
النصف +1 في استحقاق 2014: روليت روسية