الدولة الليبية تنهار

الكتابة عن ليبيا هذه الايام من اكثر الامور صعوبة ومشقة خاصة بالنسبة الى شخص مثلي وقف منذ الدقيقة الاولى لتدخل حلف الناتو عسكريا في شؤون هذا البلد ورفض ان يكون وسط السرب الذي كان يرقص طربا لمثل هذا التدخل ويضم جيشا من المفكرين والمحللين العسكريين ومدعوما بمحطات تلفزة عملاقة عربية وغربية، في واحدة من اكبر عمليات التضليل الاعلامي والسياسي في تاريخ المنطقة.

فاذا قلت ان المياه شحيحة في طرابلس فانت مؤيد للنظام الديكتاتوري، واذا تحدثنا عن جبال القمامة التي تلوث العاصمة والمدن الاخرى بالاوبئة والروائح العفنة، فانت مدعوم منه، عميلا له، وتريد عودته وكتائب ابنائه التي عاثت في الارض فسادا واجراما.

ليت الامر يتوقف عند اكوام القمامة، او شح الماء، وانهيار الخدمات الاساسية، فهذه امور يمكن تحملها بالمقارنه فما جرى ويجري حاليا من جرائم ترتكبها الميليشيات المسلحة وبلطجيتها، وتفكك البلاد جغرافيا وديمغرافيا، وارتفاع وتيرة القتل وسفك دماء الابرياء في وضح النهار، الامر الذي حول العاصمة الى مأتم كبير.

يوم الجمعة الماضي افاق اهل طرابلس على مجزرة مروعة راح ضحيتها ما يقرب من خمسين شخصا، واصابة ما يقرب من 500 آخرين عندما فتحت كتائب مصراته نيران مدافعها المضادة للدروع على مجموعة من المتظاهرين طفح كيلهم من خروقاتها الامنية، واهاناتها المتكررة لاهالي منطقة غرغور، وذهبوا للتظاهر امام مقرها طلبا لمغادرتها المدينة، وكف شرها عن العباد.

كتائب مصراته لعبت دورا كبيرا في اطاحة نظام العقيد الليبي معمر القذافي وقدم اهل المدينة الالآف من الضحايا عندما هاجمتهم وحاصرتهم دباباته، وحظيت بدعم السلطات القطرية وما زالت، ويتباهى بعض ابنائها بأنهم هم الذين اعتقلوا الزعيم الليبي واعدموه ثم عرضوا جثته ممثلا بها في ثلاجه ومعتدى عليها، وهي جثه، بطريقة جنسية بشعة تحرمها كل الشرائع والقيم الاخلاقية ثم دفنت مع جثة ابنه ووزير دفاعه في مكان مجهول بعد تعفنها وانتشار رائحتها.

هذه الكتائب اقامت تحالفا مع نظيراتها من منطقة الزاوية في الغرب، وكونت “درع ليبيا” وتولى هذا الحلف توفير الامن في مدينة طرابلس العاصمة، وفي المقابل هناك قبائل الزنتان البدوية المدعومة من دولة الامارات وفرنسا، وتقيم دولتها المستقلة مثل غريمتها مصراته، وتحتفظ بنجل العقيد الراحل سيف الاسلام القذافي في احد معتقلاتها الى جانب الالآف من انصاره.

وما يرجح قوة ونفوذ كتائب درع ليبيا تحالفها مع اللجنة الامنية العليا التي تتصرف كقوات امن للعاصمة، وتقف في الخندق نفسه مع قوات درع ليبيا في مواجهة كتائب الزنتان، ولا ننسى في هذه العجالة ميليشيا الفيدرالية في الشرق التي انبثقت او اصبحت جيش “دويلة” “برقة” ومقرها بنغازي، وتسيطر حاليا على الآبار النفطية ومرافيء تصديرها الامر الذي قلص انتاج البلاد الى اقل من 600 الف برميل يوميا بالمقارنة مع 1.5 مليون برميل قبل “الثورة” وبعدها.

عندما بدأت “الثورة” في ليبيا كان عدد الميليشيات لا يزيد عن اصابع اليد الواحدة، الآن وصل العدد الى 300 ميليشيا، وبلغ عدد افرادها والمنتسبين اليها الى 250 الف عنصر بعد ان كان لا يزيد عن 50 الفا في افضل الاحوال في بداية تدخل الناتو عسكريا.

ولاء هذه الميليشيات لقادتها الميدانيين، ومدنها وقبائلها، وليست للدولة المركزية وحكومتها، الامر الذي ادى الى تآكل الهوية الوطنية الليبية، الجامعة الموحدة، تماما مثلما حدث في العراق ويحدث حاليا في سورية.

لا شك ان العقيد معمر القذافي لعب دورا في وصول البلاد الى هذه الوضعية عندما بذر بذور الريبة والشك في نفوس شعبه، وجعله الاخ لا يثق بأخيه، وهذا ما يفسر رفض الميليشيات القاء سلاحها تجاوبا مع استجداءات الحكومة، لانها لا تشعر بالامان اذا ما فعلت ذلك، وتجد في السلاح مصدر امان واطمئنان، وهذا ما يفسر ايضا لجوء حراس آبار النفط في الشرق تفضيل اساليب الابتزاز المسلح على المفاوضات لانهاء سيطرتهم عليها.

ومن المفارقة ان من ابرز القواسم المشتركة بين العراق وسورية وليبيا، الدول الثلاث شبه الفاشلة، وشهدت اثنتان منها تدخل الناتو بشكل مباشر (العراق وليبيا) وحلفاء الناتو بشكل غير مباشر (سورية) ان الحكومات المركزية ضعيفة اولا، وان الهوية الوطنية تتآكل بسرعة لمصلحة الهويات الطائفية والمناطقية، وان النفط يخضع لسلطة الميليشيات وليس الدولة، وتقوم ببيعه في السوق السوداء والاستفادة من عائداته.

في ليبيا الحكومة المركزية ليست ضعيفة فقط، وانما غير موجودة، فلم يحدث في اي بلد من بلدان العالم ان تعرض رئيس الوزراء للخطف من غرفته في الفندق وهو بملابس نومه على ايدي عناصر ميليشيا يمولها رئيس الدولة والبرلمان (المؤتمر الوطني)، ويتعرض نائب رئيس مخابراتها للخطف فور وصوله الى المطار، وصحافيوها وسياسيوها للاغتيال حتى ان اللواء المكلف بالتحقيق في جرائم الاغتيال هذه يقتل حرقا بتفخيخ سيارته ناهيك عن تعرض مطاراتها للاغلاق بقرار من احد قادة الميليشيات لابتزاز الدولة والحصول على مخصصات مالية اضافية.

السابق
معركة القلمون تنسف حسابات الأميركي
التالي
السعودية بحثت مع سليمان التجديد