بوتين «الديموكتاتور»: ليس هناك ما نتعلمه من أميركا

العميل السابق لدى الاستخبارات السوفياتية «كي جي بي»، الذي انتخب رئيساً في العام 2000، وحافظ منذ ذلك الوقت على قوته في السلطة بين رئيس للبلاد ورئيس للحكومة. هو اليوم في العام 2013، الرئيس من دون أي منافس.

ليس فلاديمير بوتين لاعب شطرنج، بل لاعب جيدو من المستوى العالي. عرف نقاط القوة لدى منافسيه فتمكن ببساطة من أن يفقدهم توازنهم. وهو الذي تحول خلال الأشهر الماضية إلى «منقذ العالم» بسبب دوره في الأزمة السورية، وحتى وإن لم يكن كذلك بالنسبة لجميع السوريين.

إن كان بوتين نادماً على سقوط الاتحاد السوفياتي، فلا يعود ذلك إلى أسباب أيديولوجية. ولكنه فعلياً يبحث عن عالم ثنائي القطب، عالم يشبه صرخات جون كينيدي ونيكيتا خروتشيف في الأمم المتحدة، أو يشبه السباق على التسلح الذي خاضه رونالد ريغن وليونيد بريجنيف. هو لا يريد عالماً أحادي القطب أو حتى متعدد الأقطاب، وهو العالم الذي قبل فيه بوريس يلتسين بخيار الديبلوماسية الأميركية.

جاسوس وبطل

بطريقة أو بأخرى، يمكن النظر إلى بوتين على اعتبار أنه منتج النخبة الروسية. هو الذي استطاع النجاة، سياسياً واقتصادياً، من انهيار الاتحاد السوفياتي، والذي حتى منتصف التسعينيات كان لا يزال يحاول التخلص من «سوفياتيته».

أعيد انتخاب الرئيس الأول لروسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي بوريس يلتسن في العام 1996، إلا أنه ما لبث أن توفي، فكان لا بد أن يخلفه رجل قوي. وقد بحث الصقور عن هذا الرجل أشهراً عديدة. ويروي غليب بافلوفسكي (المحلل السياسي والمستشار السابق للرئاسة الروسية) في كتابه «السياسة الدولية» في العام 2003، أن الكرملين خلال تلك الفترة شاهد عرضاً لجماهير من الصحافيين ورجال السياسة والاجتماع، ولكن «رويداً رويداً، شاهدنا بروز الشخصية المحببة من الشعب: الرجل الشاب، الرياضي، بصحة جيدة، ذو التاريخ العسكري، وكان جزءاً من الجيش ومن وكالات الاستخبارات السوفياتية. باختصار، هو الجاسوس الاستثنائي البطل».

في المجتمعات الغربية، باستثناء جيمس بوند، لا ينظر إلى الجاسوس بطريقة إيجابية. أما في روسيا، خصوصاً في تلك الفترة، فكان الجاسوس هو البطل. وإذا راجعنا تاريخ بوتين في الـ«كي جي بي»، من الممكن ملاحظة انه لم يكن له سوى مساهمات بسيطة خلال سنوات عمله بين العامين 1985 و1990. كان لدى خريج القانون من جامعة بيترسبورغ الذكاء الكافي للابتعاد عن الانقلابيين الذين أرادوا استبقاء الاتحاد السوفياتي. تحالف مع أناتولي سوبفشاك، استاذه السابق في القانون الذي أصبح رئيس بلدية سان بيترسبورغ. ثم أصبح منقذه عبر إخراجه من البلاد في مواجهة اتهامات سوء ممارسة، فكسب بالنتيجة سمعة الرجل الوفي.

خلال فترة عمله في بلدية سان بترسبورغ، وبعد مغادرته لـ«كي جي بي»، برهن بوتين عن مواهب تتناقض مع صورة الرجل النزيه، وهي الصورة التي حاول مناصروه إظهارها لاحقاً.

ومن أجل إدارة ممتلكات الكرملين، تم استدعاء بوتين الوفي والسري في العام 1996. وبعد عامين، عين رئيساً لوكالة الاستخبارات الفدرالية (إف إس بي)، وريثة الـ«كي جي بي»، ثم رئيساً لمجلس الأمن القومي في العام 1999. وفي هذا المنصب الأخير، استخدم بوتين قدراته في المناورة من أجل إخراج يلتسين من قبضة العدالة، وكافأه الأخير في المقابل عبر تعيينه رئيساً للحكومة، وحدده كوريث له. وفي النهاية، وفي العام 2000، انتخب رئيساً لروسيا.

ديموقراطية القيصر

منذ الأشهر الأولى في الحكم، عمد بوتين إلى التقليل من قوة المطالبين باستقلال الشيشان، وإعادة بعض سياسيي الأوليغارشية السابقين، وإحياء الحكم المركزي، فضلاً عن إنعاش بعض الرموز السوفياتية. وقد عمد أيضاً إلى تعيين المقربين منه في المراكز المهمة. وفي نهاية ولايته الأولى في العام 2004، وبحسب الخبيرة في النخبة الروسية أولغا كريشتانوفيسكا، فإن 25 في المئة من أعضاء النخبة السياسية كانوا من عملاء الـ«كي جي بي» السابقين أو قطاعات النفوذ الأخرى (وزارة الداخلية، الجيش)، مقابل 13 في المئة وجدوا قبل وصوله إلى السلطة. أما في نهاية ولايته الثانية في العام 2008، فوصلت تلك النسبة إلى 42 في المئة. واقع الحال، بحسب القياديين، هو «ديموقراطية مسيرة»، أما بالنسبة لأعدائهم فهي «ديموكتاتور» أي «ديموقراطية الديكتاتورية».

في بداية الألفية الجديدة، تحرك الرأي العام ضد أنظمة مشابهة وجارة لروسية، فحصلت «ثورة الزهور» في جورجيا، ثم «الثورة البرتقالية» في أوكرانيا. لم ير بوتين في تلك التحركات سوى أيدي واشنطن الخفية. وقد نجح خطابه المعادي للغرب، في إطار بروباغندا بسيطة تهدف إلى جذب الأصوات «النوستالجية» أي التي تحن إلى ماضي الإمبراطورية، في جعله أقوى. وحرصاً على علاقته مع الدول الكبرى، تفادى أن يخطو خطوة أخرى تجعله ديكتاتوراً رسمياً. ولذلك، لم يلجأ إلى تعديل الدستور للبقاء في منصبه لولاية ثالثة، وذلك لم يمنعه من تعيين خليفته، رئيس الحكومة الشاب ديميتري ميدفيديف.

في الثامن من أيار العام 2008، عُين بوتين رئيساً للحكومة. واتفق الجميع على أن الرئيس ببساطة غيّر عنوان سكنه. تشوش ذهن الموظفين، أي صورة يجب أن يعلقوا خلف مكاتبهم. وبسرعة، سارع رئيس الحكومة إلى دفع الرئيس إلى الصف الثاني، فعين المقربين له في المناصب المهمة، ولم يترك مجالاً لميدفيديف لتعيين فريق خاص به. وخلال أربع سنوات، استمر بوتين، إن كان في روسيا أو خارجها، في تلقي التكريمات التي من المفترض عادة أن تقدم إلى رئيس الكرملين. لم يوقف بوتين مهامه الرئاسية، عقد اجتماعات عمل مع الوزراء، التقى رؤساء الأركان، عقد مؤتمرات صحافية موسعة، وفتح خطوطاً مباشرة مع الشعب. باختصار، بقي بوتين الرئيس الحقيقي للبلاد. وكما قال المنظر السياسي الأميركي زبغنيو بريجينسكي، فإن «بوتين كان يتخذ القرارات الأساسية. لعب الرئيس ميدفيديف دوراً مهماً، ولكن ليس لديّ الانطباع بأنه كان صاحب الكلمة الفصل في اتخاذ القرارات».

خلال فترة رئاسته، اعتمد ميدفيديف أسلوباً جديداً للإدارة، أكثر إجماعاً وأخلاقية. وبحسب المنظر السياسي ستانيسلاف بيلكوفسكي، كان بوتين يغار من نجاح ميدفيديف لدى الطبقة المثقفة الليبرالية وحتى لدى القوى الغربية. أما ميدفيديف، فكانت تستفزّه الطرق الفظة لرئيس حكومته في محاولة عكس صورة متحضرة للكرملين. بوتين من جهته، لم يكن يزعجه أن يتجاوز الحدود المفروضة عليه، عبر ملاحقته للشؤون الخارجية، وهو شأن من المفترض أنه من حق الرئيس فقط. كان من الممكن رؤية خيبات الأمل المتبادلة بين الرجلين، والتي تعكس في بعض الأحيان المنافسة الممكنة بينهما على منصب الرئيس. إلا أن كل شيء تقرر في العام 2012، تسلم ميدفيديف رئاسة حزب «روسيا الموحدة» والحكومة، فيما عاد بوتين إلى الرئاسة.

ومع عودته إلى الكرملين، عمد الرجل «الواقعي صاحب الميول المحافظة»، بحسب تعبيره، إلى إصدار قوانين اعتبرتها المعارضة قاتلة للحريات، بالإضافة إلى حربه في مواجهة المجتمع المدني. وقد كلفه ذلك بعضاً من شعبيته، غير أن جزءاً كبيراً من الشعب الروسي حافظ على تقديره له (63 في المئة منذ إعادة انتخابه)، وهذا كله بالرغم من بعض القرارات، التي أثارت المجتمع الدولي، ومن بينها إدانة فرقة «بوسي رايوت»، ومنع الأميركيين من تبني الأطفال الروس، بالإضافة إلى قانون يمنع نشر المثلية الجنسية.

لا يحبّ الرئيس الروسي أن يعطيه أحد أي دروس. وبعيداً عن شعبيته المرتبطة ببلاغته المعادية للأميركيين، حافظ على علاقة معقدة مع الولايات المتحدة، المنافس الذي يرفض أن يأخذه على محمل الجد. يجاهر بوتين بأنه ليس لدى أميركا أي شيء لتعلمه لروسيا، وفي كل مرة يتعذر عليه فيها أن يجيب على سؤال مربك، حول حقوق الإنسان أو الأزمة الاقتصادية أو الفساد، يجيب «أنظروا إلى الولايات المتحدة، ليست أفضل حالاً».
فعل خيراً باراك أوباما حين تفادى الدخول في شجار مع نظيره الروسي بعدما قرر الأخير استقبال إدوراد سنودن، المتعاقد السابق مع وكالة الأمن القومي الأميركية، والذي فضح سياسات التجسس الأميركية. فهذا الشاب منح الرئيس الروسي الفرصة المناسبة لإعطاء أوباما درساً في الديموقراطية. كما سمحت له الأزمة السورية بإضافة بعض الدروس إلى القانون الدولي. فالأهم بالنسبة لبوتين هو أن ينجح في أن يصبح، بالنسبة لأوباما، الشريك الدولي الأوحد.

السابق
المرصد السوري: انتشار الآلاف من مقاتلي حزب الله من الجهة اللبنانية للقلمون
التالي
حزب الله نعى شهيده حسن نعمة من بلدة محرونة