الأشجار معجزة تنقرض

لطالما أدهشتني الأشجار: ومع أنني كبرتُ، وتوقفتُ عن تصديق الخرافات، لكنني بقيتُ أرى في الأشجار معجزة خارقة؛ كيف للاشيء، يخرج من تحت الأرض بمقومات سرية، لا تعرفها، ثم قِوام من الخضار، مزيَّن بأطياف من اللون الأخضر، يخترق الفضاء محمولاً بثمار، بزهور فواحة؛ كيف له، هذا الذي كان لا شيء، أن تتبدّل ألوانه وأوراقه مع الفصول، أن يكون ملاذاً، عشاً آمناً للعصافير المقيمة والمهاجرة، تنام فيه وتتوالد، وتربي صغارها على التحليق؛ تلك العصافير التي تعلن، بزقزقاتها عند طلوع الشمس، عن رفعها لستار المسرح، لتبدأ الكوميديا الإنسانية اليومية… أليست هذه معجزة؟ بأن يكفي قليل من الماء، بالشتاء، أو الري، أو الأنهر، لتنتصب أمامنا تلك الكائنات (كائنات نعم) الشامخة، المعتّقة، الجميلة، الوافرة بظلها وعطرها وإمتدادها؟ العلماء يفسرون بالعقلانية اللازمة الكيفية التي تنشأ بها الأشجار بلغتهم اللاتينية غير المفهومة. لكننا ننساها، تلك النظرة الى الأشجار، الباردة، المتقشفة، المختصرة، المنزوعة عن الذاكرة والأنثربولوجيا. بالتأكيد، هناك من كتبَ عن الأشجار، غير الأمير تشارلز، ولي العهد البريطاني، الذي أسس جمعية للدفاع عن بقاء الأشجار على الكرة الأرضية. ولكنني لم أقرأ إلا قليلا، إلا في الشعر، عن تلك العلاقة الأكيدة بيننا وبين الأشجار.

تذكرتُ ما حلّ بي يوم قُطعت شجرة ضخمة كانت واقفة أمام عمارتنا منذ سنوات، بعدما أصابني القلق على شجرة كينا ضخمة تمتع حواسي، وأنا جالسة على مكتبي، أكتب أو اقرأ. قال الجيران بأن موقف السيارات الذي تعتليه تلك الشجرة سوف يتحول الى بناية “سوبر دي لوكس” (دائما هي “سوبر دي لوكس” تلك الوحوش النابتة في مدينتنا). فأخذتُ أحسب عدد الأشجار القليلة التي بقيت لي وأنا في طريقي الى الخارج، الى الشارع: لم يصبر على تلك الوحشة غير شجرتَي كينا تبثّان رائحتهما وظلالهما على من يمرّ من تحتهما، تقعان بالقرب من الدكان الذي أزوره يوميا للنظر الى ألوان خضاره وفاكهته، ثمرة أشجار، قبل أن أشتريها. أحسب قليلا، فأنتبه الى أنني أيضا لن أمرّ تحت شجرة كينا أخرى، كانت تستوقفني يومياً وأنا داخلة الى مقر عملي؛ فقدتها أيضاً، لأن العمل انتقل الى مكان آخر.

ما كتبه أورهان باموك، الروائي التركي (نوبل 2006)، عن قصة شجرة حدثت معه عندما كان طفلاً: يروي في كتابه “اسطنبول، ذاكرة مدينة”، انه مقابل بيتهم، كانت تقف شجرة كستناء عمرها خمسون سنة، وكانت بلدية إسطنبول قد خططت، عام 1957 لإقتلاع هذه الشجرة بغية توسيع الطريق. البيروقراطيون الذين راجعهم أهله كانوا مصمّمين على تنفيذ الخطة. فقرر أولئك الأهل أن يتناوبوا ليلاً نهاراً على حراستها، والنتيجة كانت تراجع البلدية عن قرارها. يقول أورهان باموك: “لقد نجحنا في إنقاذ شجرتنا، ولكننا أيضا بنينا ذاكرة مشتركة، يستدعيها أهلي بالكثير من الحنين”.

حدس الروائي التركي، يتجاوزه الخيال الجامح لجميس كاميرون، مخرج “أفاتار” (avatar)، الفيلم الذي يروي قصة هجوم البشر على سكان كوكب، هو الجنة المتصوَّرة، يعتبر أهله الشجرة منبع حياتهم. شجرة أم تقع في مركز الأشجار كلها، شجرة مقدسة، يعيش أهل الكوكب تحتها، ينامون بين أغصانها المعمّرة بأرجوحة شبكية، ويعتبروها مكاناً لجمعياتهم العمومية ولقرارتهم المهمة، ومعبداً لطقوسهم الغريبة. الشجرة عندهم كائن لا يمكن القضاء عليه من دون القضاء على عيش أولئك السكان ونمط حياتهم ومعتقداتهم مقدساتهم. وهم، كما هو متوقع من خيال المخرج، محل حسد من البشر، محل جاذبية. ينتقل البطل، الذي كان آلة الإعتداء على هذا الكوكب، إلى لاجىء “أرضي” (من الأرض) على كوكبهم.

كل هذا أتى على بالي وأنا اتجول في الطريق إلى ميناء جبيل. وفْرة الاشجار متنوعة الأصناف، على هذه الطريق، استعادت قصتي مع أشجار الكينا الثلاث بالقرب من منزلي وعملي، كم هي مسكينة، مكتفية، مسلّمة بالقدر الذي يهدّدها. توقفتُ تحت هذه الاشجار، خضارها، تمدّدها، فيئها. لم أقاوم إغراء الإقتراب من جذعها: ألمس خشونتها، أمسّدها، أداعبها؛ أشمّ رائحة كل واحدة منها. وأتذكر: هذه الدار البيضاء ومدرسة بن جلون. وهذه صيدا في قديم الزمان. وهذه مدرستي عند الراهبات في بعبدا، وهذا ملعب “ستاد دي شايلا”، الذي كانت مدرستنا تنظم فيه مباراة كرة السلة… لا تنتهي الذاكرة من الإستيقاظ. فحاسّة الشم صاحبة ذاكرة. وعندما عدتُ الى بيروت، حيث الأشجار مظلومة، بقيتُ في حلم جبيل برهة، قطَعَته العودة الى القحط والجفاف، الباطون المسلح على باطون مسلح. تحسرتُ على تلك الأشجار التي قطعتها سيوف الربح السريع والعمارات المشوهِّة المرصوصة على بعضها، وعلى تلك المعجزات التي لن تخرج بعد الآن من تحت الأرض لتضفي علينا فيئاً وأخضر وعطوراً، وموسيقى تصويرية مع الرياح، ما يشفي الأرواح المغلولة… حسرة تشبة الأسى على طفل ولد ميتاً.

في بيروت الآن، وفي جبال لبنان، الخضراء بالسمعة، هناك مجرزة تحصل، “لايف”، ومن دون مواربة، بل أحيانا باعتزاز بارد، تجاه الأشجار. حساب الأشجار التي اقتُلعت من مكانها ليحل محلها عمارات فخمة أو “بزارية”، بربرية في الحالتين، تسدّ علينا كل هواء، كأنها سجون للشوارع المسماة “هواءً طلقاً”… ليس سكان هذه الشقق التي لن يحفظ التاريخ منها شيئاً، كما يحفظ الذاكرة المعمارية ببدائعها الماضية، ليس هؤلاء أسرى شققهم الضيقة والمكيفة صيفا شتاء، كما في بلاد الصقيع أو الحر الشاملين… ليسوا وحدهم في المعتقل. معهم أيضا الطافشون من شققهم الى هواء يريدونه طلقاً، يصرون ان يكون كذلك، يفعلون المستحيل من أجل إقناع أنفسهم بحلاوة الشارع و”الهواء الطلق”. لكنهم يعجزون، الهواء ليس “طلقاً”، هو مثلهم، سجين؛ يتجولون بين سيارت نفاثة مازوت، وعمارات متلاصقة، ثم شجرة، وحيدة تقاوم وحدتها، لا أعرف كيف. أقترب منها كل يوم، بنظري، بأنفي، بكل جوارحي… أكاد أشدّ بأزرها، لكثرة ما أشعر بضيقها… وهكذا…

القائمون على الإقتصاد والسياسة آخر من يمكن التعويل عليهم في العمل على الحفاظ على هذا النوع من الذاكرة، بعدما صارت لازمة “وينية الدولة؟” تتردّد خارج نطاق هؤلاء المسؤولين، وقصدها السخرية من تعطّلهم. الذاكرة “الشجرية” إذا جاز التعبير، البعيدة عن “اللغة الخشبية”، التي تستعير الخشب، وهي ثروة أخرى، يراكمها تجار آخرون في بقع اخرى، بقطع الأشجار؛ فيما أصحاب الحق الوحيدون بهذا الخير، هم الذين سيواجهون هذا الشتاء في العراء…

نشطاء المجتمع المدني المهتمون بالطبيعة لهم بعض اليد في تحسين ظروف إحتضار الأشجار في مدننا وربوعنا. همهم الصحي لا يقل وجاهة عن الهمّ الوجودي. الأشجار تساعدنا على مقاومة تلوث الاجواء، فتتنشق عنا كل ما ننفثه من سموم. تساعدنا على تحمل ما كان سبباً في قتل أخواتتها. أليست هذه مفارقة؟ بأن تساعدنا الأشجار على تنشق المازوت، فيما المازوت شرط من شروط إبادتها؟

المهم ان الفعل المدني من أجل البيئة، والأشجار من بين موضوعاتها، هو مثله مثل الأفعال المدنية حول مسائل أخرى، لم تنجح في وقف هذا الإسترسال المريح في قتل الشجر. بعض الزعماء تمكن من تحويل الشجر الى ما يشبه المتحف: محمية أرز الشوف، مثلاً، تزورها، تدخل إليها ببطاقة تدفع ثمنها، كأنك داخل على مزار، أو متحف؛ تفتح بأوقات وتغلق بأوقات، ولها جهاز بأكمله يدير حياتها. كأن هذه الأشجار ليست من صنع تلك المعجزة الإلهية التامة التحت والفوق أرضية. كأن المحمية التي تسكنها معرض راق، لزوار راقين، يعاملوها معاملة حيوان ثمين في قفص، معرَّض للإنقراض، أو في أفضل الحالات كأنها أنتيكا نحنّ اليها بين الحين والآخر، فنزورها. وإسمها “محمية”…

بلد عَلَمه الوطني في قلبه شجرة. قد لا تبقى شجرة عند سيرته إلا تلك الواقفة وسط هذا العلم. أما الذاكرة التي ستحفظ مآثر الباطون المسلح في إبادة الأشجار، فسوف تكون ذاكرة جافة، خالية من الألوان والروائح، وأصوات حفيف الأشجار عندما تداعبها الرياح. لا تعرف عن الأشجار إلا في الكتب، التي لن تقرأها، ثم في العَلَم.

السابق
حزب الله نعى شهيده حسن نعمة من بلدة محرونة
التالي
رعد دعا 14 اذار الى الكف عن التدخل في سوريا