الحب الاول

هي قصة غرام قديمة توشك ان تستعاد. الطرفان يسعيان الان الى تصحيح خطأ تاريخي وقعا فيه قبل نحو 35 عاما، في لحظة غضب وانفعال، ويتطلعان بشغف الى احياء علاقتهما الحميمة التي كانت باريس شاهدا عليها.

بدأت القصة كما هو معروف في اواخر السبعينات من القرن الماضي، عندما كانت اميركا تبحث عن سبيل لاختراق الجدار السوفياتي من منطقة آسيا الوسطى، فوجدت ضالتها في الثورة الخمينية الناشطة في ذلك الوقت، وقررت التخلي عن شاه ايران رضا بهلوي المصاب بداء السرطان وجنون العظمة، (حسبما جاء في وثائق الاستخبارات الاميركية التي رفعت السرية عنها في العام 2009). لكن فريق الخميني الباريسي الذي عاد معه على طائرة الخطوط الجوية الفرنسية الى طهران ظافرا، تسرع في طلب السلطة كاملة وفي السعي لتحييد القائد وطبقة رجال الدين، فكان الرد بانقلاب داخلي ثان رفع فيه شعار الموت لاميركا.. ومعه شعار الموت لروسيا، عندما هب السوفيات الى غزو افغانستان، ردا على ما اعتبروه يومها توغلا اميركيا نحو حدودهم الجنوبية، قبل ان يدركوا ان الود الخفي قد انقطع بين واشنطن وطهران.

ومنذ ذلك الحين تراكمت الاخطاء المتبادلة، الاميركية والايرانية،الناجمة عن كبرياء مفرط اكثر من كونها ناتجة عن كراهية عمياء، وبلغت في بعض الاحيان حافة الاشتباك المباشر، لكن الجانبين سرعان ما كانا يتوصلان الى تفاهمات وصفقات سرية، كانت ولا تزال حتى اليوم شاهدا على تلك العلاقة الوثيقة، وركنا اساسيا من اركان موازين القوى في العالم الاسلامي، ظل راسخا برغم حروب كثيرة شنتها اميركا، وعارضتها ايران.. وذهب ضحيتها الكثيرون من حلفاء البلدين وخصومهما معا.

كانت اميركا في ذلك الحين تتطلع الى الثورة الخمينية بصفتها منصة اسلامية جديدة للهجوم على الشيوعية السوفياتية، وها هي اليوم تسعى الى تجديد العقد الباريسي الاول، الذي يفترض في الدولة الايرانية ان تكون قاعدة للمواجهة مع الاصولية الاسلامية السنية، التي ضربت الاميركيين في عقر دارهم في مطلع الالفية الجديدة، ثم قارعتهم وانتصرت عليهم في افغانستان والعراق وغيرهما من ساحات المواجهة في العالم الاسلامي.

على هذا الاساس وحده تجري اليوم المفاوضات النووية الاميركية الايرانية وتقترب بسرعة مذهلة من صفقة علنية مدوية تنهي اكذوبة القنبلة الذرية واسطورة اليورانيوم المخصب، وترسي اسس مصالحة تاريخية طال انتظارها من قبل الشعبين اللذين لم يرغبا اصلا في القطيعة وكانا على الدوام يعتبرانها غلطة عابرة، ارتكبها مسؤولون وسياسيون من العاصمتين غالبا ما كانوا يتسمون بالعجرفة او حتى الحماقة، ولا يدركون حجم المصالح المشتركة بين البلدين، ولا الادوار المتبادلة التي تنتظرهما في عدد من الساحات الاسلامية المتفجرة، بدءا من افغانستان مرورا بالعراق وصولا ربما الى الخليج العربي.

لم يبق سوى القليل على تلك الصفقة النووية التي كانت معظم بنودها سارية بالفعل في عهد الرئيس الايراني الاسبق محمد خاتمي ومساعده يومها اي الرئيس الحالي حسن روحاني الذي سبق له التوقيع على تجميد البرنامج النووي الايراني : واشنطن تحاول الان تهدئة بعض الرؤوس الاميركية الحامية التي انطلت عليها خدعة العداء بين البلدين والشعبين وحتى النظامين، وطهران تتجمل لاستقبال الزائر الرسمي الاميركي الاول، الذي لن يتصرف مثل روبرت ماكفرلين في فضيحة ايران غيت، ولن يتوارى مثلما فعل اميركيون وايرانيون كثيرون عندما كانت الصدف تجمعهم في كابول او في بغداد او في برلين او في جنيف.. وباريس تشعر بالهجران لانها لن تكون شاهدة وشريكة في المصالحة المقبلة، مثلما كانت قبل 35 عاما مضيفة وراعية للتفاهم الاول بين الثورة الخمينية وبين الزعامة الاميركية.

يقال ان اسابيع فقط تفصل عن ذلك اللقاء الحميم.

السابق
مصير الثورة السورية على المحك
التالي
انه الشيطان الطائفي يا اغبياء