درجة أعلى من جنون السعودية

طلبت السعودية من الولايات المتحدة فرصة إضافية في سوريا، وافقت على «مبدأ» المشاركة في مؤتمر «جنيف 2»، لكنها اشترطت ما يدفع إلى عدم انعقاده قريباً، وهدفها الحصول على وقت إضافي للقيام بعمل عسكري ميداني كبير شمال سوريا وجنوبها، لتحقيق وضع ميداني يجعل مفاوضات جنيف أكثر «توازناً».

قبل شهور عدة تسلّمت السعودية الدفّة، وبرنامج بندر بن سلطان لا يقف عند حدود. لا همّ له بالناس والحساسيات والأوضاع الصعبة. رجل حقود، مريض، مهووس بالسيطرة مهما كلّف الأمر. وبعد مشاورات مع الاستخبارات الأميركية والبريطانية والفرنسية، وبمساعدة مباشرة من الأردن والإمارات العربية، وجد أن الحل يتطلّب خطوات عاجلة:

ـــ التخلص من «الجيش الحر»، بتركيبته الأخيرة، وكان الاتفاق على تشكيل «الجيش الوطني». وجدت فرنسا في العميد الفارّ مناف طلاس المرشح الأفضل لقيادة هذا الجيش. لم ترفض السعودية الاقتراح مباشرة، لكنها اتّكلت على ردود قاسية من الجماعات المسلحة على الأرض. وكان اللافت ما قاله قادة المجموعات في الرستن وحمص من أنهم سيقطعون رأس طلاس عندما يلتقون به للمرة الأولى.

ـــ تعهّد بندر للأميركيين والغربيين محاصرة القوى المنضوية تحت لواء تنظيم «القاعدة»، لكنه انتزع في المقابل عدم ممانعة التخلص من مجموعات «الإخوان المسلمين» والمجموعات المغرّدة لوحدها، التي يعتقد السعوديون أنها تُديرها الاستخبارات التركية والقطرية.

ـــ حصل بندر من الملك الأردني عبد الله على موافقة، ترجمت بخطوات لإقامة عدد من المعسكرات الرئيسية على الحدود الأردنية ـــ السورية، وتوفير ممرات آمنة لاستقبال آلاف المقاتلين، سواء عبر الحدود أو عبر المطار، وتأمين خط الذهاب والإياب. لكن بندر لم يفِ لملك الأردن بمنع رايات «القاعدة»، فشاهدها ملك الأردن قرب الحدود، وازداد قلقاً.

ـــ سعى بندر ولا يزال، بالتعاون مع الأميركيين والفرنسيين (الذين يزداد حقدهم والغباء يوماً بعد يوم عند قيادتهم)، لبناء جيش من 30 ألف مقاتل، بعضهم من «جيش الإسلام» المتوافق، بل المتصل، مع «جبهة النصرة»، وتبرير بندر للأميركيين والغربيين بأن هؤلاء سلفيون لكنهم لا يتبعون تنظيم «القاعدة»، وإذا تعاظم الخوف من «جبهة النصرة» فلا مانع لديها، كما لا مانع عند السعوديين وعند قائد «جيش الإسلام» زهران علوش، أن ينضووا جميعاً في «الجيش» المذكور.

ـــ يريد بندر نقل أسلحة حديثة ومتطورة، وخلال الأيام الماضية ارتفعت معنويات قادة مجموعات ميدانية تحدثوا عن وصول أسلحة كافية لصدّ هجمات الجيش السوري، وعن وصول أسلحة صاروخية تتيح لهم قصف دمشق بقوة وبعمق، كذلك قصف مناطق نفوذ حزب الله في البقاع والجنوب في لبنان.

ـــ يريد بندر طواعية تركية وقطرية كاملة، إلى جانب الولاء من جانب دولة الإمارات. في أنقرة خشية متعاظمة، ليس من انتشار «القاعدة» على حدودها مع سوريا، بل من كون بندر لا يريد لها أي دور، ويريد أن تبقى أبوابها وأراضيها مفتوحة للمجموعات المسلحة الآتية إلى سوريا. ويبدو أن تركيا، الخائفة والقلقة من الأكراد الآن، لا تزال مستجيبة لطلبات الغرب، وما قامت به ضد رجال السعودية اقتصر على إغلاق مراكز كانت تعمل باستقلالية، لكن مصارفها وشركاتها وأجهزتها الأمنية لا تزال منخرطة في الحرب ضد سوريا.

ـــ في قطر، انزعاج من فشل قيادة المرحلة الماضية، لكن ليس في قطر مَن يعتقد أو يظن بإمكانية التموضع الجديد. المسؤولون في قطر يعبّرون عن انزعاج إضافي من القيادة السعودية للمعركة، لكن أحداً في قطر لا يجرؤ على الادعاء أنه قادر على مخالفة رغبة السعودية، ولذلك يسعى القطريون إلى إشاعة مناخات مختلفة، وإلى تقليص بعض الدعم الذي لم يعد يذهب إلى جماعتهم مباشرة، لكنهم لا يزالون في قلب المعركة، سياسياً وإعلامياً وعسكرياً وأمنياً ومادياً.

ـــ في دولة الإمارات العربية، توزيع محدود للأدوار. يترك لإمارة دبي عدم قطع شعرة معاوية مع أحد، لضمان استمرار تدفق الأموال من جهة، وخشية تعريض الإمارة لنكسات أمنية لاحت بعض إشاراتها في الأجواء أخيراً. لكن حكومة أبو ظبي وحاكمها الفعلي محمد بن زايد ينخرطون كلياً في المعركة، في التمويل والتدريب والنقل والاتصالات وترتيب الخدمات على أنواعها. وهؤلاء يعتقدون أنهم يقدرون على مواجهة «الإخوان المسلمين» في كل المنطقة، وبعضهم واهم بالإمساك بمصر عبد الفتاح السيسي، ثم بسوريا. علماً أن أبو ظبي تستقبل منذ أيام ضيفاً مصرياً رفيعاً يناقشها في أمر سوريا، وينصحها باتخاذ هامش بعيد عن «الحقد السعودي» الأعمى.

ـــ في لبنان، يسعى بندر وأعوانه إلى فرض وقائع على الأرض تتيح إعادة وصل مناطق لبنانية بمناطق سورية، يجري العمل بقوة على حشد مقاتلين في الجرود المتصلة بجبال القلمون، ويجري العمل على الإمساك الكلي بطرابلس وعكار، وإخضاعهما لسلطة الميليشيات التابعة لتيار «المستقبل»، ومنع الدولة من التحرك هناك، بحجة أنها مناطق تخشى على نفسها من سوريا. ويسعى بندر إلى القيام بجرائم تتجاوز الاغتيالات القائمة ضد خصوم حلفائه، لتصل إلى حدود تهجير جبل محسن وأهله، وترويع المسيحيين ودفع الشيعة من المقيمين في طرابلس إلى مغادرتها سريعاً، وإلى خلق واقع سياسي وشعبي من النوع الذي يجعل الشمال قاعدة عمل جديدة ضد سوريا.

يبدو أن الجنون السعودي في ذروته، أو أنه في مرحلة متقدمة، وثمّة «غشاوة»، إنْ لم نقل أكثر، عند قوى وعند جمهور من اللبنانيين، تدفعه إلى الخضوع كلياً لأجندة هذا الجنون، وهو ما يفتح البلاد أمام احتمالات بشعة وقاسية، وخصوصاً أن الطرف المقابل، وإنْ ظلّ غير مبادر، وإنْ بقي عمله محصوراً في سياسات وقائية أو دفاعية، إلا أن الجنون يلامس أحياناً حدّ اللامعقول، فتكون النتيجة صداماً دامياً متنقّلاً.

أما في سوريا نفسها، فالمؤشرات تقود إلى استنتاجات مقلقة بشأن إمكان حصول تسوية سياسية قريباً. لا بل إن التشدد الظاهر في مواقف جميع الأطراف يعزز الفرضية القائلة بأن سوريا ستشهد في الأسابيع المقبلة المزيد من المواجهات القاسية، ما يعني المزيد من الدم والنار والدمار، وما يعني تعميق الجرح السوري الذي لا يمكن غير أهل سوريا مداواته، الآن أو بعد حين!

السابق
خمسة وتسعون ملياراً… فقط؟
التالي
بعبدا: الرياض تدعم الاعتدال