سقوط «الإخوان» ينهي عصر «الحزب الحاكم»؟

مع سقوط «دولة الإخوان المسلــمين» في مـصر، ينتهي عصر كامل من تاريـخ الوطــن العــربي: لقد انتهى زمن هيمنة الحــزب الواحد الذي يلغي كل ما عداه من القوى السياسيــة في هــذا البــلد او ذاك، لينفرد بحكم البلاد والعباد بمعزل عن مدى تمثيله لشعبها.
ولقد تزامن سقوط دولة «الإخوان» في مصر مع التخلي التدريجي في سوريا عن أسطورة «الحزب الحاكم» ولو عن طريق إبراز «شركاء»، هم في حقيقة الأمر أحزاب عتيقة جداً أو مستحدثة، تسلم بقيادة «حزب البعث العربي الاشتراكي» وتنضوي في «الجبهة الوطنية» التي تنشأ ـ عادة ـ لتغطي حقيقة أن الحزب بقيادته، وأن القيادة بشخص القائد ـ الرفيق الأمين العام ـ القائد الأعلى للقوات المسلحة ومرجع أي قرار وكل قرار. وكما في كل الأنظمة الشمولية فإن اللافتات الحزبية المعلقة في كل مكان إنما تشكل إطاراً عقائدياً لصورة القائد ـ الرئيس.
وقبل ثلاث سنوات، تقريباً، أسقطت انتفاضة البوعزيزي في تونس الحزب الحاكم الذي كان الجنرال زين العابدين بن علي قد ركبه على عجل، ليغطي انقلابه ثم حكمه العسكري الفردي، فارضاً الحظر على أحزاب تاريخية أبرزها «الحزب الدستوري» الذي ظل الرئيس ـ المؤسس الحبيب بورقيبة يتولى زعامته حتى خلعه «ربيبه» الجنرال، واستولى على الحكم. وكان ذلك الحزب التاريخي والذي لعب دوراً مميزاً في كفاح تونس، من أجل استقلالها وتوكيد دولتها، قد تفسخ وأنهكته مباذل السلطة وعَرَّضَهُ «غيابُ» المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة عن دوره القيادي فانهار وتلاشى منقسماً إلى أحزاب وتنظيمات مستولدة على عجل امام الجنرال الطموح… بل لعل بعض أقطابه قد ساعدوا زين العابدين على ابتداع حزبه الحاكم باسمه وبأمره منفرداً.
وقبل عشر سنوات كان «حزب البعث العربي الاشتراكي» في العراق قد تلاشى تماماً ولم يظهر له الأثر المتوقع من «الحزب القائد»، بالملايين من أعضائه، في مواجهة القوات الأميركية الغازية التي اجتاحت العراق فدمرته انطلاقاً من عاصمته ذات التاريخ بغداد، ثم اعتقلت صدام حسين ومكنت خصومه من إعدامه أمام عيون جنودها الذين كانوا منهمكين في نهب كنوز العراق من متاحفه ودار الكتب الوطنية ومن خزينته، ثم من مواقع الآثار التي لا مثيل لها ولا شبيه والتي تكاد تلخص بدايات التاريخ الإنساني وحضاراته.
وعلى امتداد ثلث قرن تقريباً حكم صدام حسين العراق فعلياً ودائماً تحت لافتة حزب «البعث»، وهو قد اقتدى بالنموذج السوري فأنشأ بل ركب «جبهة وطنية» من سائر الأحزاب السياسية بعدما اطمأن إلى إضعاف المتماسك منها، تحت قيادته… لكن ذلك كله لم ينفع في طمس حقيقة أن صدام كان الحاكم المطلق، وأن الحزب كان ـ في أحسن أحواله ـ هيئة استشارية وقناعاً للحكم الفردي أو العائلي، إذ إن صدام كلف إخوانه وبعض أبنائه بمهمات كان يفضل ان تحصر «داخل البيت».
يمكن إدراج «عصر معمر القذافي» في ليبيا ضمن هذا السياق… فهو قد بدأ اول الأمر باستنساخ التجربة الناصرية فأنشأ «الاتحاد الاشتراكي»، ثم استغنى عنه بمؤتمر الشعب العام الذي تديره «اللجان»، وفوق اللجان الشعبية أقام «اللجان الثورية» التي هو وحده مرجعها… ولقد ذهب إلى أبعد فمنع نشر أسماء أعضاء الحكومة (أو اللجنة الشعبية العامة)، وكانت الصور الرسمية لاستقبال ضيوف الدولة تثير السخرية، إذ تسقط سهواً أسماء المسؤولين الكبار ممن يستقبلون ضيوفه من ملوك ورؤساء… وكذلك الأمر في التلفزيون. اسم واحد فقط كان يرن في أسماع الناس على مدار الساعة هو اسم الأخ القائد.
وحين أسقطت الانتفاضة الشعبية في ليبيا، معززة بطائرات حلف الأطلسي، بعد استنكاف بل تواطؤ الجامعة العربية مع القوى الغربية الطامعة بخيرات ليبيا، حكم العقيد معمر القذافي، وهي قد أشرفت على قتله والتمثيل به بتلك الطريقة الشنيعة والمنافية لأبسط شروط احترام إنسانيته، وجدت ليبيا ذاتها تغرق في الفراغ المطلق، إذ لا حكومة، ولا مجلس نيابياً، ولا مؤسسات من أي نوع… وها هي الآن نهب لمشروع حرب أهلية تكاد تدمر أسباب العمران في هذه «الدولة» التي لم يقدّر لها يوماً ان تكون دولة، وما زال أهلها يحنون إلى الملكية وإلى الانفصال في ثلاث ولايات شرقاً وغرباً وجنوباً، وإن ظل النفط يعطل هذا المشروع الذي بات القرار فيه في أيدي «الدول» ذات الأطماع.
في مصر لم تنجح تجربة الحزب الواحد يوماً، لا في أيام جمال عبد الناصر عبر «الاتحاد القومي»، ثم عبر «الاتحاد الاشتراكي»، وإن شكل «التنظيم الطليعي» في فترة محددة مشروع حزب يطمح لأن يكون قيادة الأمة، لكن رحيل عبد الناصر المباغت عطل هذا المشروع… ثم جاء عهد السادات فحول الاتحاد الاشتراكي إلى «حزب السيد الرئيس»، ومثله فعل حسني مبارك، الذي بدل اسم التنظيم لا غير فجعله «الحزب الوطني»، لكن «انتفاضة يناير» فضحت الخواء المطلق وسيطرة مجموعة من المنتفعين والمنافقين على هذا التنظيم الذي كان يدرّ على قادته الثروات… وهكذا اختفى «الحزب» منذ اللحظة الأولى من فجر 28 كانون الثاني.
يمكن الإشارة بسرعة إلى تنظيم «حركة القوميين العرب» التي كانت لها شعبية واسعة في الخمسينيات والستينيات، والتي شاركت «حزب البعث»، بالاضطرار، لفترة انتهت بإقدام الأقوى على تصفية الأضعف… ولكنها استطاعت ان تنفرد بسلطة ما مع قيام جمهورية جنوب اليمن قبل أن يتحول القياديون فيها إلى الشيوعية، ومن ثم إلى التسليم بقدر من الحماية السوفياتية للدولة الوليدة والفقيرة، قبل ان تمزق الخلافات صفوف «الرفاق» ويسقط الحكم الماركسي في أيدي القبائل، حتى صارت «الوحدة» مع الشمال طوق النجاة… ولو على مضض. وها هو «الحزب القائد» قد بات أحزاباً، لكل من «الرؤساء» الذين تسلموا السدة في عدن، ذات يوم، حزبه، في حين يغرق الشعب في أتون الجوع، وتتوارى الأحزاب الكثيرة، شمالاً وجنوباً، خوفاً من «القاعدة» التي تتخذ الآن من اليمن السعيد بؤرة نموذجية لنشاطها.
اليوم، تكاد المنطقة العربية تخلو من الأحزاب الفاعلة، ذات البرامج الواعدة ببناء المستقبل الأفضل عبر توظيف الطاقات العظيمة للأجيال الجديدة،
هناك الكثير من أحزاب الماضي… لكن أي حزب منها لم يعد يجرؤ على الادّعاء انه مؤهل لبناء الأمة الواحدة، بل حتى لبناء دولة قطرية عفية توفر العيش الكريم لأهلها.
ومع التقدير لدور الجيوش في استنقاذ بعض البلاد التي حكمتها، ظاهرياً على الأقل، أحزاب بقيت دائماً ستاراً لحكم القائد الفرد، فليست الجيوش هي المؤهلة والمطالبة ببناء الغد الأفضل.
إن الحياة السياسية شبه معطلة في معظم أرجاء الوطن العربي… وهي معطلة بالأمر أحياناً، وبالعجز غالباً. وليس دور الجيش أن يخلق الحياة السياسية، وإن كان واجبه أن يحمي الوطن وحركة شعبه من أجل بناء غده الأفضل.
وهذه واحدة من المعضلات الخطيرة التي تتهدد الحياة السياسية وتكاد تعطلها، تاركة الفراغ يغري الجيوش بأن تتقدم لتعوض غياب الغائبين، أو لتشغله ريثما يحضرون.

السابق
ليتهم يرتاحون ويريحون!
التالي
ضد أميركا… ضد الوهابية